منتدى الفلسفة ـ المدرسة العليا للأساتذة - فــــــــاس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

النظرية و التجربة - تتمة-

اذهب الى الأسفل

النظرية و التجربة - تتمة- Empty النظرية و التجربة - تتمة-

مُساهمة  hager el fezazi الجمعة مارس 19, 2010 1:32 pm

I. التجربة و التجريب:

1- التجربة : يمارس الناس جميعا التجربة خلال حياتهم اليومية، بفعل احتكاكهم المباشر بالواقع عن طريق الحواس، إذ يتوصلون عادة إلى أفكار تدخل في نطاق الحس المشترك و التمثلات العامية. و تتسم هذه الأفكار بالتلقائية و الذاتية و الخضوع للأحكام المسبقة و المتسرعة، إنها التقاط لما يظهر للعيان في الملاحظة المباشرة و الساذجة . فلا يمكن إدخال هذه التجربة في مجال العلم، لأن نشأة العلوم كان بإبعاد هذا النوع من التجربة و تاسيس ممارسة منظمة و دقيقة تتجاوز الطابع المباشر و السطحي و الذاتي للتجربة العادية، بالاعتماد على التجريب .

2- التجريب : ارتبط ظهور التجريب كممارسة علمية بتخصص كل علم بموضوع محدد و منهج خاص به ، حيث تأسست العلوم على قواعد و مبادىء منظمة تقود إلى نتائج مضبوطة .

فالطبيعة تحكمها قوانين لا تظهر بشكل تلقائي و مباشر للإنسان الا اذا اعتمد منهجا دقيقا و منظما، و اشتغل بطريقة مخبرية تمكن من عزل الظاهرة المدروسة و فرزها عن العوامل المتشابكة حولها و التي تعوق معرفة قوانين الظاهرة بشكل واضح.

لقد ظهر المنهج التجريبي في صيغته الكلاسيكية مع العالم الفرنسي * كلود برنار* ( 1813-1878) الذي استفاد من التراكم العلمي و المنهجي الذي خلفه غاليلي و نيوتن و بيكون و ستوارت ميل. حيث وضع * كلود برنار* في كتابه ْالمدخل لدراسة الطب التجريبي ْ 1865. قواعد المنهج التجريبي في خطوات أربعة هي : الملاحظة و التجربة و الفرضية و القانون.

أ‌- الملاحظة : هي أول خطوة منهجية في عمل العالم، تختلف عن الملاحظة العادية لكونها لا تعتمد على العين المجردة إلا في حدود ضيقة جدا، و تكون في أغلب الأحيان مجهزة بآلات و أدوات علمية، يقول ك. برنار : < لكي تكون معاينة الظاهرة معاينة سليمة يستخدم الملاحظ كل الأدوات التي من شأنها جعل ملاحظته للظاهرة ملاحظة أكثر شمولية > و يشترط في الملاحظة أن تكون موضوعية مرتبطة بالظاهرة المدروسة بعيدا عن رغبات و ميولات الملاحظ الذي يجب أن يكون كآلة تصوير تنقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة حيث يجب أن يلاحظ دون أي فكرة مسبقة . تعد الملاحظة لحظة إصغاء موضوعية و محايدة ينتقل بعدها العالم إلى وضع الفرضيات، فما هي الفرضية ؟ و ما موقعها في المنهج التجريبي ؟

ب‌- الفرضية : هي فكرة مؤقتة يقترحها العالم لتفسير ظاهرة معينة، و تشكل استدلالا عقليا ينطلق من الملاحظة و يقود إلى التجربة، فإذا أكدت التجربة صحة الفرضية أصبحت قانونا و إذا تبين خطأها استبدلت بفرضية أخرى، يشترط في الفرضية أن تكون قابلة للتحقق التجريبي و نابعة من الظواهر المدروسة و لا تتناقض مع ذاتها.

ت‌- التجريب: هو الخطوة الثالثة من خطوات المنهج التجريبي، يقوم فيها العالم بالتدخل في الظاهرة المدروسة، أو يصطنعها في المختبر بتوفير شروطها الأساسية، و عزلها عن العوامل و المتغيرات الأخرى، من أجل تحديد طبيعة العلاقات بين الظواهر المتدخلة في إنتاج الظاهرة المدروسة. ولإضفاء طابع الحتمية و الضرورة على نتائج التجربة، يشترط فيها أن تكون قابلة للتكرار كلما توفرت نفس الشروط المخبرية، و يتحقق فيها مفهوم العزل كي يتم التمييز بين عوامل الظاهرة المدروسة و غيرها، و إمكانية التحكم في الشروط التي تحدثها و إدخال شروط جديدة، كما ينبغي أن تكون نتائج التجربة قابلة للتعميم على ظواهر من نفس النوع و تنتج في نفس الظروف.

د- القانون: هو – العلاقة الثابتة بين ظاهرتين أو أكتر – إذ يكون هدف العالم من الملاحظة و الفرضية و التجربة ، هو معرفة تلك العلاقة الثابتة ، و تحديد الشروط الموضوعية القائمة بين ظاهرتين أو أكثر. و المتضافرة في إنتاج الظاهرة المدروسة ، حيث متى توفرت نفس الشروط نتجت عنها تلك الظاهرة، مثل تبخر الماء في حرارة مائة درجة ، فالتبخر كظاهرة طبيعية يمكن أن نحدثه في المختبر متى وفرنا شروطه الثالية : الماء+ حرارة مائة درجة. إذ يكون القانون حتميا معبر عنه في صيغ فيزيائية مثل : H²O التي نعبر عن الماء.

IIالعقلانية العلمية:

لقد أفضت العلوم المعاصرة في القرن العشرين إلى اكتشاف ظواهر و علاقات ميكروسكوبية يصعب تحديدها كأشياء لها خصائصها المميزة الثابتة نسبيا، و يتعذر تعيينها في الزمان و المكان، و ظهرت نظريات جديدة ( مثل نظرية النسبية لأنشتاين) لا تعتمد التجربة الإمبريقية بمفهومها الكلاسيكي، و لكنها تتوصـــل الى نتائجها عن طريق المعادلات و الخطاطات الرياضية المجردة، فلم تعد التجربة مرجعا لأختبار صدق الفرضيات أو كذبها، و لا منبعا للنظريات، لأن النظريات أصبحت عبارة عن إنشاءات عقلية حرة.

و من هذا المنطلق أكد – ألبيرت اينشتاين – 1879 1955 أن الإبداع العقلي هو الأساس النظري للفزياء المعاصرة. فالنظرية هي نسق تتكامل فيه المفاهيم و المبادئ الصادرة عن العقل، و لا يكون للتجربة إلا دورا ثانويا يكمن في مطابقة القضايا الناتجة عن النظرية، و توجيه العالم إلى اختيار بعض المفاهيم الرياضية التي يوظفها، في حين أن العقل هو الذي يمنح النسق بنيته، على نحو رياضي خالص. إذ يقول اينشتاين : - ان المبدأ الخلاق في العالم لا يوجد في التجربة بل في العقل الرياضي -

لقد اقتضت ضرورة التطورات الطارئة في العلوم المعاصرة إعطاء العقل و التجريد الرياضي مكانة متميزة في مواجهة النزعة الإختبارية الكلاسيكية ، مع ذلك سيضل التجريب حاضرا بقوة في مناهج العلوم، مما فرض ضرورة إيجاد إطار نظري يحدد العلاقة بين التجربة /الواقع و النظرية / العقل. و في هذا السياق جاء الإبستمولوجي الفرنسي * غاستون باشلار* بمفهوم العقلانية المطبقة ، و هي عقلانية يتم فيها تركيب دقيق بين العقل و الواقع، فالتجربة كما تصورتها المذاهب التجريبية كمصدر وحيد للبناء النظري للعلم أصبحت متجاوزة، و العقل كما تصورته العقلانية الديكارتية كمستودع للأفكار قبلية، معزولا عن الواقع بذاتة صار طرحا متجاوزا أيضا. لأن العقلانية العلمية هي عقلانية مطبقة لا ينفصل فيها العمل التجريبي عن النشاط العقلي، حيث يتحدد العقل العارف مشروطا بوضوح معرفته لكي تكون النظرية العلمية نتاج حوار دقيق ووثيق بين العقل و الواقع.

III- معايير علمية النظريات العلمية:

أمام تعدد النظريات بتعدد حقول المعرفة و تقاربها أو تقاطعها، و أمام انهيار النموذج الكلاسيكي للمنهج العلمي، طرح السؤال، ما معايير علمية النظريات العلمية ؟ 1-) معايير التناسق المنطقي:

يرى * دوهيم duhem* (1861-1916) أن النظرية الفزيائية هي " نسق من القضايا الرياضية المستنبطة من عدد قليل من المبادئ" إذ أن تناسب النظرية مع التحليل الرياضي عموما هو احد المعايير التي تؤكد عمليتها ، و لذلك يشترط فيها أن تكون الفرضيات و التعريفات التي تنطلق منها محددة بشكل واضح، و أن تخضع لتناسق منطقي باحترام مبدأ عدم التناقض سواء بين حدود كل فرضية، أو بين الفرضيات المعتمدة في النظرية ككل، كما يشترط في النظرية معيار التناسق بين مختلف المبادئ و الفرضيات التي تقوم عليها حسب قواعد التحليل الرياضي، و تتخذ التجربة في الأخير لكي تقارن مع القضايا المستنبط رياضيا ، للتأكد من مدى صحتها أو خطأها.

2-) معيار تعدد الاختبارات:

إن فاعلية النشاط العلمي هي فاعلية دينامية و شاملة ، تتجدد معها النظريات و المفاهيم و تتغير معها نظرة الإنسان إلى العقل و الواقع، و لما كان استمرار العلم مرتبط بتجدد تصوراته و نتائجه، يرى " بيير تويليي" أنه وجب على العالم لكي يحقق عملية نظريته أن يخضعها باستمرار إلى فرضيات إضافية و أن يكرر اختباراته لكي تحافظ من جهة على تماسكها المنطقي الداخلي ، و كي تخرج أيضا من عزلتها التجريبية بانفتاحها على فروض نظرية جديدة. فتعدد الإختبارات هو معيار عملية النظرية و علامة قوتها .

3-) معيار القابلية للتكذيب/ التزييف:

قدم " كارل بوبر " تصورا يتجاوز مفهوم الحتمية الذي عرفته الفيزياء الكلاسيكية ، مؤكدا أن معيار عملية النظريات العلمية لا يتحدد فيما تقدمه من يقينيات و حتميات بقدر ما يتحقق قي قابلية تلك النظرية للتفنيد و التكذيب، و أن تضل مفتوحة على إمكانية الإختبار مجددا. فالطابع التركيبي و الشامل للنظرية الذي يتعدى حدود التجربة و لا يكتفي بنتائجها، يجعل من المتعذر التحقق من صدق أو كذب النظرية بواسطة التجربة، لذلك فمعيار الحكم على النظرية بأنها علمية، هو قابلية منطوقها و بنائها النظري للتفنيد أو التكذيب . فعلى النظرية أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها.

************

*********

**



2-إعداد : عبد الخالق السلواني، عبد الحفيظ الريح، لحسن عبود.

تـــقـــديـــم

يقصد بالمعرفة كل بناء منهجي يعتمد على قدرات عقلية ومهارات فكرية، ويتم هذا البناء من قبل الذات في علاقتها بالموضوع، وعليه فكل بناء معرفي هو نتيجة لهذه الجدلية القائمة بين الذات والموضوع ومعيار تق??;يمه م&#??78;نوع، قد يكون الواقع وقد يكون الفكر النظري أو هما معا، وتنقسم المعرفة إلى علمية وغير علمية، فالأولى تخضع لبناء إستنباطي يحكمه الاتساق والإنسجام بين مقومات وقوانين نظريته، والثانية هي كل معرفة ناتجة عن التمثل المشترك، وتفتقد لخصوصية البناء المنظم ونموذجها السحر، الشعوذة...

تحديد مجال المفهوم:

تعتبر النظرية بناء فكري إستباطي يحكمه الاتساق والإنسجام، يعتمده العالم الباحث للإجابة عن مجموعة من الطروحات والفرضيات التي تشكل موضوع إهتمامه، وتتصل النظرية أيضا بالممارسة والتطبيق وبالمجال العلمي بشكل عام، وفي كلتا الحالتين تأخذ النظرية معنى، إنتاج فكري تركيبي وصفي موجه للتطبيق والتأثير في الواقع، وبهذا فهي تحمل عدة أبعاد، بعد واقعي يهم الموضوع الذي تتولى وصفه، وتفسيره وبعد تقني يرتبط بمجموع الإجراءات والعمليات التي تحيط بإنتاجها، ثم بعد قيمي يتعلق بمدى صدقها وتماسكها. مقابل هذا التحديد للنظرية يمكن التساؤل ما التجربة؟

يشير لفظ التجربة، إلى مجالات عديدة ومتنوعة، فهي تشمل المعارف والخبرات التي يكونها الإنسان في علاقته المباشرة بالواقع، كما تعني اكتساب القدرة على الإتقان، أما في مجال المعرفة العلمية فتعتبر الوسيلة الأساسية التي يلجأ إليها العالم التجريبي لمعرفة القوانين المتحكمة في الظواهر.

من هذا المنطلق، يعتبر مفهوم النظرية والتجربة مفهوم معقد وإشكالي، فما دلالة كل من النظرية والتجربة؟

من الدلالة إلى الإشكالية:

يحمل مفهوم النظرية في التمثل المشترك معاني القول والحكم والرأي، والنظرية حسب هذا التمثل تكون إما سلبية أو إيجابية، سلبية إذا لم يسندها الفعل والعمل وإيجابية إذا تحولت إلى أداة للفعل والعمل وجلب المنافع، وبهذا يتبين أن التمثل المشترك ازدرى التنظير واحتقره، مما يبرز مدى قصوره ومحدودية أفقه.

وبالانتقال إلى المجال اللغوي العربي نجد أن لفظ النظرية اشتق من كلمة النظر التي تفيذ المشاهدة الحسية العيانية، أما اصطلاحا وفي لسان العرب لإبن منظور تفيد النظرية معنى الترتيب والنظام؛ "ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى إستعلان ليس معلوم". بينما في اللسان الفرنسي نجد كلمة نظرية théorie اشتقت من العبارة الإغريقية théoria التي تعني النظر والمشاهدة الحسية، فضلا عن استخدام التأمل العقلي. وعلى المستوى الفلسفي اعتبر لالاند أن النظرية بمثابة "إنشاء تأملي للفكر،يربط نتائج بمبادئ"، ليستخلص من هذا التعريف أن النظرية عقلية، وبذلك فهي تتقابل مع الممارسة والتطبيق.

أما مفهوم التجربة فيحمل في التمثل المشترك معاني الإحتكاك والإرتباط بالواقع التي تسمح للفرد، باكتساب خبرة معينة في مجال معين، (تدريس، بناء......) أما في المجال العلمي فتعني القيام بخطوات منظمة من طرف العالم لإستنباط القوانين المتحكمة في الظاهرة المدروسة، وتعني عند كلود برنار؛ ملاحظة من الدرجة الثانية، أما عند لالاند فيفيد لفظ التجربة "بمعنى عيني وتقني أكثر؛ فعل الإختبار".

ومن هذه الدلالات المتباينة والمختلفة، يتبين إلى أي حد يعتبر مفهوم النظرية والتجربة معقدا وإشكاليا، وهذا ما يحفزنا على إثارة التساؤلات التالية:

هل هناك تداخل بين النظرية والتجربة؟ وما علاقة هذه الأخيرة بالتجربة؟ وما دور كل من العقل والنظرية في بلورة النظرية العملية؟ وماهي معايير صحة النظريات العلمية؟.

المحور الأول: التجربة والتجربة.

لقد شكلت التجربة الخام والملاحظة العامية في تاريخ العلوم عائقا إبستيموجيا حال دون تقدم المعرفة العلمية، لكن وبفضل مجهودات مجموعة من العلماء الذين عملوا على بناء نظريات علمية متميزة عن بادئ الرأي والحس المشترك، الذي ينتج عن التجربة الحسية المباشرة، والخبرات الذاتية، أما النظريات العلمية فتقوم على التجريب العلمي، هذا الأخير حسب كويري عبارة عن مساءلة منهجية للطبيعة قائمة على لغة رياضية.

بالإضافة إلى هذا، يقترح كلود برنار جملة من الشروط التي ينبغي توفرها في العالم التجريبي، والتي يعتبرها ضرورية في بلوغ التجربة العلمية، وأكثر من هذا نجده يميز بين الملاحظ والمجرب، على المستويين النظري و العلمي، فعلى المستوى النظري؛ إن الملاحظ لايستدل أما المجرب فيستدل على الوقائع المكتسبة أما على المستوى العلمي لايمكن التفريق بينهما، لأن الباحث هو نفسه الملاحظ والمجرب.

فالنظرية إذن ليست شيئا آخر، عدا التجربة العلمية المراقبة من طرف التجربة غير أن التجريب

وحده أحيانا يبقى عاجزا عن إكتشاف الأسباب الظاهرة، لذلك يقترح روني طوم، إكمال الواقعي بالخيال كتجربة ذهنية، لايمكن لأي جهاز آلي أن يعوضها.

نستنتج مما تقدم، أن التجربة بمفهومها العلمي، لعبت دورا مهما في بناء المعرفة العلمية وفي الوقت ذاته، إحداث قطيعة إبستيمولوجية مع التجربة بمفهومها العامي، كما عملت على إثارة جملة من التساؤلات أهمها: ما هي الأسس التي تقوم عليها كل من العقلانية الكلاسيكية والمعاصرة؟.

المحور الثاني: العقلانية العلمية:

إن الخوض في العقلانية العلمية يدفعنا بالضرورة إلى التمييز بين تصورين لهذه العقلانية، أحدهما يقوم على أسس عقلانية كلاسيكية تتميز بالثبات والإنغلاق والآخر يقوم على أسس عقلانية معاصرة، قوامها الإنفتاح والتغير كما يرى باشلار، ومنه نتساءل؛ هل العقلانية العلمية قيد وإنغلاق أم حرية وإنفتاح؟ وبتعبيرآخر، هل هي مضمون ومحتوى،أم نشاط وفعالية؟

إن إرتباط ميلاد العقل الحديث بالشك الديكارتي وبالنقد الكانطي، لم يمنع فلاسفة هذه المرحلة، أسوة باليونانيين، أن ينظروا إلى العقل نظرة مطلقة ثابتة، غير أن العقل حسب ج.ب فيرنان، يبقى في الأول والأخير عبارة عن ظاهرة بشرية خاضعة لشروط تاريخية تفرض عليه وبالضرورة، التقلب والتغير حسب هذه الشروط، وعليه فإن العقل محايث للتاريخ البشري في جميع مستوياته، وبالتالي لايمكن القول بوجود تصور مطلق للعقل، وفي نفس الطرح يرى محمد أركون أن العقل البشري سيرورة من التطورات، بدءا من العقل القروسطوي اللاهوتي الذي كان يغلب عليه طابع التفسير الديني، مرورا بالعقل الحديث الكلاسيكي، المرتكز على اليقينيات المطلقة، وصولا إلى العقل النسبي الذي يؤمن بالتقدم والتطور.

أما صاحب النظرية النسبية أ.إينشطاين فيؤكد على أهمية البناء الرياضي الخالص في إكتشاف القوانين التي تسمح بفهم الظواهر الطبيعية، فالمبدأ الخلاق حسب تعبيره يوجد في العقل الرياضي.

بناء على هذا، فقد أصبح العقل العلمي المعاصر يتميز بالنشاط والفعالية حسب أولمو وباشلار، فهذا الأخير يعطي الأهمية للحوار بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية، فلم يعد بذلك العقل منعزلا في بناء مفاهيمه وطروحاته العلمية، بل لابد من يقين في وجود الواقع في قبضة العقل، ويقين بأن الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة هي من صميم لحظاتها. فهذا اليقين المزدوج أساسي لقيام التجربة.

من جهة أخرى، وجه بعض الإبستيمولويين المعاصرين البحث في منحى آخر، حيث فحص رايشنباخ علاقة العقلانية العلمية بالنزعة المثالية، فاستنتج أن كل معرفة تترفع وتتعالى عن الملاحظة والتجربة هي معرفة روحية تأملية، أقرب إلى التصوف منه إلى العلم، لأنها تتعالى عن أهم خاصية في العقلانية العلمية، ألا وهي التجربة. وفي إطار الحديث عن خصائص العقلانية التجريبية، يرى روبير بلانشي أن هذه العقلانية ليست لها نزعة إختبارية تعكس معطيات التجربة بشكل آلي ميكانيكي، كما أنها ليست منظومة من القواعد الثابتة.

إنطلاقا من هذا التعدد في المواقف نخلص إلى أن العقلانية المعاصرة المنفتحة ليست وليدة الصدفة، بل نتيجة لسيرورة من التراكمات والتحولات التي عرفعها التاريخ البشري، مما يفتح المجال أمام طرح إشكالية صحة معايير النظريات العلمية.

المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية.

لقد أدى تعدد المناهج العلمية والمقاربات المتباينة للموضوع الواحد إلى تعدد معايير صحة النظريات العلمية وكذا تباين مواقف العلماء والابستمولوجيين، فما هي أهم هذه المعايير؟ وماهي أهم الإختلافات الموجودة بينها؟

يرى عالم المناظر الحسن بن الهيثم، أن للنقد وظيفة أساسية لبناء المعرفة العلمية، مؤكدا على أنه ينبغي على كل ناظر في كتب العلماء أن يموقع نفسه كخصم لكل ما ينظر فيه، فلا يتحامل عليه ولا يتسامح معه.

بالإضافة إلى هذا، يوضح دوهايم أن معيار صدق وصلاحية النظرية العلمية يتطلب وجود توافق بين الأحكام والقوانين التجريبية، إذ إن "الإتفاق مع التجربة هو الذي يشكل بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة"، غير أن هذا التحقق التجريبي من وجهة نظر توييلي، لايعطي دلائل قاطعة، مؤكدا على ضرورة تنويع الاختبارات التجريبية، والمقارنة بينها، لأن تأكيدات التجربة تكون جزئية ومعرضة دائما للمراجعة، ومن ثم فالإختبارات المتعددة ضرورية لإخراج النظرية من عزلتها وربطها بنظريات أخرى.

غير أن التجربة بالمعنى الكلاسيكي، لم تعد تمثل منبع النظرية، ولم تعد قيمة النسق تستند على التطابق الحاصل بين معطيات التجربة و نتائج النظرية. فكيف يمكننا القول بعلمية النظرية الفيزيائية؟

جوابا على هذا السؤال يرى إينشتاين، أن البناء الرياضي الخاص هو الذي يمكننا من إكتشاف المفاهيم والقوانين، فالمبدأ الخلاق حسب هذا العالم، يوجد في الرياضيات، أما كارل بوبر فيرى أن معيار صحة النظريات العلمية، هو القابلية للتكذيب، هذه الأخيرة هي التي تميز بين النظرية التجريبية والنظرية اللاتجريبية، فما دمنا لا نستطيع وصف كيف يأتي التنفيذ لنظرية ما، فإنها تعد خارج مجال العلم التجريبي، لكنها تظل غير فارغة من المعنى أو كاذبة، لأن معيار القابلية للتكذيب يمكن أن نطلق عليه القابلية كإختبار آلة لتبيان العيب فيها، ومن ثم فالنظرية التي لا عيب فيها تبقى نظرية غير قابلة للاختبار.

هذه القابلية تمر بخطوات أساسية يحددها بوبر في ما يلي:

1- إتساق النتائج وتماسكها.

2- صورنتها منطقيا ليتبين هل هي علمية أم تيولوجية.

3- مقارنة النظرية قيد البحث مع نظريات أخرى ومعرفة هل حققت الأولى تقدما بالمقارنة مع النظريات الأخرى.

4- القيام بتطبيقات تجريبية على بعض النتائج المستخلصة من تلك النظريات، هذا الإجراء الأخير هو إجراء إستنباطي.

نستخلص من هذه المواقف والأطروحات، أن أي نظرية علمية هي حوار دائم بين البناء الرياضي ومعطيات التجربة، لكن هذا الحوار لا يحسم في تركيب بشكل نهائي، فعلاقة النظرية بالتجربة علاقة متحركة متغيرة، والعلم المعاصر لا ينظر للعقل البشري باعتباره إناء أو وعاء يشتمل على مضامين أو أفكار أولية ( أرسطو، ديكارت،لايبنيتز) أو باعتباره مشكلا من مقولات محددة (كانط)، بل باعتباره نشاط وفعالية، ولعل هذا ما يجعل من الصعوبة - كما عبر باشلار- على أي إيبستيمولوجيا أن "تصف بنية نهائية للفكر العلمي..." .







;علمي مما يجعله يفتقر إلى الموضوعية.

إن هذا النمط من السوسيولوجيا تحضر فيه ذات الباحث بشكل كبير في موضوع البحث، لكن حضور الذات هنا ليس بالمفهوم الميتافيزيقي، فالذات تحضر بكونها أساسا بيولوجيا، هذا التغير في مفهوم الذات الذي دشنت له البيولوجيا يجعل من الإنسان موجودا يضع ذاته وسط عالمه وبالتالي فالإنسان يصبح متضمنا في الظاهرة المدروسة أي أنه يصبح ذاتا وموضوعا في آن واحد، ويتجاوز كل تعال عن عالمه الذي يعيشه .

ويخلص موران إلى أن السوسيولوجيا رغم تشبثها بالعلمية ومحاولة تطلعها للنموذج الفيزيائي فإنها تبقى مرتبطة بالذات حيث لا يمكن عزل الظاهرة أو الموضوع المبحوث ودراسته بصورة تجريبية هذا يعني أنه مهما حاولنا موضعة الظاهرة الاجتماعية فإن ذات الباحث تبقى حاضرة بشكل واع أو بدون وعي في الموضوع المدروس.

لكن هل هذا الوجود لذات الباحث في الظاهرة المدروسة قد يؤثر بشكل سلبي من الناحية الموضوعية؟ وكيف تساهم الذات في تحديد الوضع الإبستمولوجي للعلوم الانسانية؟

يعتبر كل من طولرا ووارنيي أن العلوم الانسانية حديثة النشأة (ق19) وأن مجالها اعقد من مجال العلوم الطبيعية، إذ أن هذه الأخيرة نعتمد في دراستها على التجربة الدقيقة الشيء الذي يجعلنا نخلص إلى نتائج يقينية، أما بالنسبة للعلوم الانسانية فإننا قد نجد بعض الصعوبات في ذلك، ومنه فإن حضور الذات داخل الظاهرة الانسانية أو حضورها كذات وموضوع في نفس الآن أمر يسهل علينا التعامل معها ودراستها، ذلك لان الذات تكون على علم كامل بكل ما يحيط بها وما يصيبها أحيانا من تناقض ومن تغيرات مفاجئة وتلقائية، ولذلك فإن الابستمولوجيا المعاصرة تركز بشكل كبير على حضور الذات في دراسة الظاهرة الانسانية، وذلك بهدف الإحاطة بشكل كامل بالموضوع .

يعتبر الفيلسوف موريس مرلوپونتي من خلال كتابه " فينومينولوجيا الروح" أن للتجربة الذاتية أهمية كبرى في دراسة الظاهرة الانسانية بحيث أن كل معرفة يتوفر عليها الفرد ويكونها عن العالم فهي معرفة ناتجة عن احتكاك الذات بهذا العالم ومدى تفاعلها داخله، هذا الأخير الذي يختلف من شخص لآخر حسب التجربة الفردية، ويخلص هذا الفيلسوف إلى أن اعتماد المنهج التجريبي في دراسة الظاهرة الانسانية هو حذف ونسيان للعالم المعيش، وللتجربة الذاتية ولذلك ينبغي العودة إلى الإنسان باعتباره مولدا للمعنى ويعيش في عالم رفقة الغير.

إن هذا النقاش الإبستمولوجي حول نموذجية العلوم الانسانية وحول مدى صلاحية المنهج العلمي في دراسة الظاهرة الانسانية وكذا تداخل الذات والموضوع في دراسة الفعل الإنساني، فرض ضرورة اتخاذ السوسيولوجيا والتعريف بها وتحديد منهجها وموضوعها للإحاطة بشكل أكبر بالظاهرة الانسانية، ومعرفة الصعوبات التي يواجهها دارسها.

VI- نموذج السوسيولوجيا:

يمكن تصنيف العلوم إلى صنفين علوم طبيعية موضوعها الطبيعة كمادة أو كظاهرة جامدة أو كظاهرة حية وعلوم اجتماعية موضوعها الإنسان كفرد أو كعضو في جماعة أي علاقته بالآخرين وفي حالة اندماجه بالمؤسسات الاجتماعية التي يتأثر بها ويؤثر فيها وهذا الميدان يختص به علم الاجتماع باعتباره الدراسة المنسقة التي تدرس الإنسان ككائن اجتماعي لاكتشاف حقائق جديدة تكون قابلة للتحقيق من صحتها ويعبر عنها بواسطة قوانين. إلا أن الحديث عن علم الاجتماع كعلم قائم بذاته أي ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يطرح مجموعة من الإشكاليات سواء على مستوى بناء الموضوع أو على مستوى تحديد المنهج أو على مستوى المكانة التي تحتلها النظرية في علم الاجتماع، وتندرج هذه الإشكاليات حول إمكانية عملية العلوم الاجتماعية أو استحالتها ويمكن صياغتها في الأسئلة التالية:

· ما هي طبيعة الظاهرة الاجتماعية؟ وهل يمكن أن يكون الإنسان ذاتا وموضوعا في نفس الآن؟

· ما هو المنهج المتبع في دراسة الظواهر الاجتماعية؟ هل يصبح الحديث عن التفسير كأس الدقة العلمية أم أن وظيفة علم الاجتماع تنحصر في فهم الظواهر لا في تفسيرها؟

· ما هي طبيعة النظرية السوسيولوجية؟ وهل يمكن الحديث عن نظرية شاملة في علم الاجتماع؟

· إلى أي حد يمكن تحقيق الموضوعية في علم الاجتماع وهل يستقيم الحديث عن خطاب علمي في دراسة الواقع الاجتماعي؟

أ‌- موضوع علم الاجتماع:

إن الظاهرة الاجتماعية تختلف عن الظاهرة الطبيعية المتميزة بالثبات وبالوجود الخارجي المستقل عن الإنسان، فهي ظاهرة معقدة يتداخل أكثر من عامل في تحديدها، كما أنها ظاهرة واعية يتدخل فيها عنصر الوعي البشري ويؤثر فيها الشيء الذي كان وراء تأخر العلوم الاجتماعية، إلا أن الأمر يعتبر موضوع نقاش لدى علماء الاجتماع فريمون آرون يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الظاهرة الاجتماعية معتبرا أن أهم ما يميز علماء الاجتماع هو صعوبة تحديد موضوعهم إلا أنه يرى أن علم الاجتماع كعلم قائم بذاته يجب أن يتحرى الدقة والضبط العلمي كما يجب أن يحدد الظواهر التي تشكل موضوعه الخاص وتميزه عن باقي العلوم الأخرى كالعائلة والطبقة الاجتماعية والعلاقات بين أقسام الواقع السياسي والاقتصادي...وهذا ما أكده عالم الاجتماع الفرنسي إميل دور كايم حيث حاول إعطاء علم الاجتماع الطابع الخاص الذي يميزه وذلك من خلال تحديد معنى الظاهرة الاجتماعية كموضوع خاص بعلم الاجتماع، فدور كايم يرى أنه قبل البحث عن المنهج الذي يلائم دراسة الوقائع الاجتماعية يجب معرفة هذه الوقائع والتعامل معها كأشياء منفصلة عنا كأفراد واعين، كما يرى أن الظواهر الاجتماعية تتميز على السواء وليس للفرد الحق في اتباع هذا النظام الاجتماعي أو الخروج عليه، وأن المجتمع قد وضع الجزاء لكل من ينحرف سلوكه عما اقتضته طبيعة الحياة الاجتماعية، إلا أن موقف دور كايم من الظواهر الاجتماعية كأشياء مستقلة عن الذات الواعية قد أثار انتقادات كثيرة من طرف علماء الاجتماع مثل لوسيان غولدمان الذي ناقش تصور دور كايم وانتقد موقفه حول طبيعة بناء الظاهرة الاجتماعية معتبرا أن التعامل مع الظاهرة الاجتماعية كشيء يصعب تحقيقه من الناحية الإبستمولوجية نظرا لخصوصية هذه الظاهرة ولاستحالة تجرد الباحث في علم الاجتماع من المفاهيم القبلية والإملاءات اللاواعية.

هكذا وانطلاقا مما سبق نجد تباينا واضحا في ضوء إشكالية الموضوع في علم الاجتماع فهناك من يقول بإمكانية تشييء الظاهرة كما هو الشأن في العلوم الطبيعية وهناك من يجد صعوبة في تحديد الظاهرة الاجتماعية بطريقة منهجية دقيقة نظرا لتداخل الذات بالموضوع في دراسة الواقع الاجتماعي الشيء الذي ينعكس بطريقة مباشرة على إمكانية تطبيق المنهج العلمي في العلوم الاجتماعية.

ب: منهج علم الاجتماع.

لقد تبلور المنهج العلمي وتجدر في البحوث الفيزيائية والطبيعية قبل أن ينتقل إلى البحوث الاجتماعية لينتشر على أوسع نطاق، حيث بات أداة لفهم واقع المجتمعات وجسر وعلاج لمشاكلها وذلك بفضل محطاته التقنية التي من خلالها يتعامل الباحث مع الواقع كواقع أي كما هو لا كما ينبغي أن يكون ملاحظة أو تجربة أو مقارنة أو مقارنة أو استقراء فتعميم والمعجم الفلسفي العربي عرف المنهج بأنه "الطريق الواضح في التعبير عن شيء أو في عمل شيء تعليم شيء طبقا لقوانين معينة وبنظام معين بغية الوصول إلى غاية معينة" ويمكن القول بوجه عام أن المنهج أو المناهج هو الطريقة التي يسلكها الباحث للإجابة عن الأسئلة التي تثيرها المشكلة موضوع البحث، إلا أن تطبيق المنهج في البحث الاجتماعي يعتبر موضع نقاش بين علماء الاجتماع مما يفسر تعدد المناهج واختلافها وهنا مارسيل موس يرى أن المواضع تتعدد في علم الاجتماع بقدر ما تتعدد الموضوعات التي يدرسها الباحث الاجتماعي، فبالرغم من أن دوركايم حاول وضع المنهج الذي ينبغي لعلم الاجتماع أن يتبعه ألا وهو المنهج الوضعي فإنه من غير الممكن وضع صياغة نهائية أو منهج قار في علم الاجتماع ولحل إشكالية المنهج في علم الاجتماع نجد جون لادريير يقدم تصور إبستمولوجي يصرح فيه الاحتمالات الممكنة لحل هذه الإشكالية وذلك من خلال إمكانية تكوين نموذج جديد للعملية خاص بالعلوم الاجتماعية مادام أن باب تاريخ المعرفة العلمية لم يغلق وأن التاريخ لازال ينتظر من العلوم الاجتماعية خاصة والعلوم الإنسانية عامة إغناءه بتجربتها ومنهجها، وإذا كانت العلوم الطبيعية تطورت عبر اعتماد المنهج الرياضي فلا يعني هذا ضرورة انطباق هذا المنهج على العلوم الاجتماعية واعتباره منهج نهائي ومطلق بل يمكن للعلوم الاجتماعية أن تشكل نموذجا ثانيا للمعرفة من خلال مناهج وأدوات أصيلة للتحليل والبحث. ويمكن اعتبار المنهج التفهمي كنموذج ثاني للعملية في علم الاجتماع مع ماكس فيبر الذي يعتبر من أكبر علماء الألمان الذين أسهموا في إنشاء علم الاجتماع من خلال دراسته للأفعال والسلوكات الإنسانية بشكل يختلف عن دراسة الظواهر الطبيعية وهنا يأخذ فيبر بعين الاعتبار موقع الذات العارفة في دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها ظواهر غائية ومحدودة بهدف مقصودة وبحوافز ممكنة وتقبل أن تكون موضوع تأويل تفهمي. وماكس فيبر في هذه السوسيولوجيا التفهمية يفترض أنه بإمكاننا أن نجد في ذواتنا دوافع كل فرد إنساني وبالتالي فمهمة السوسيولوجيا هي الفهم بواسطة تأويل الفعل الاجتماعي لتمكن بعد ذلك من تفسير تطورات وتأثيرات هذا الفعل بطريقة علية ولا نقصد بالعلية من تشييء الظواهر بل تفهم المعنى الذي يعطيه الإنسان لسلوكه. وفي مقابل هذا المنهج التفهمي الذي يقوم على الفهم والتأويل نجد مع إيان كريب منهج مغاير يقوم على التحليل والتفسير في دراسة الفعل الاجتماعي وهناك نوعين من التفسير حسب إيان كريب تفسير آلي يفسر الظاهرة الاجتماعية بالرجوع إلى أسبابها الفاعلة أي بالرجوع إلى الشرط اللازم كحدوث الظاهرة المدروسة وتفسير غائي يأخذ بعين الاعتبار النوايا والغايات في تفسير أفعال الفاعلين فالإنسان لا يقوم بالفعل ولا يتخذ قرار إلا وفق حسابات ومقاصد معينة.

بوجه عام يمكن القول أن هناك مقاربات متعددة وتصورات مختلفة تندرج في إطار النقاش الإبستمولوجي المعاصر حول إمكانية اعتماد المنهج التفهمي أو المنهج التفسيري فهناك من أكد على أهمية الذات في بناء المعرفة وهناك من فصل الظاهرة عن إطارها الذاتي إلا أن هناك موقف ثالث مع جان كلود بابييه يجمع بين الاتجاهين ويضع السوسيولوجيا في وضعية وسط بين الفهم والتفسير.

هكذا يمكن القول ومن جانب آخر أن محاولة تحديد مناهج العلوم الاجتماعية بالرغم من اختلافها وممارستها في البحث السوسيولوجي هي أولا وأخيرا طريقة للأخذ بالتفكير في التعريف بالواقع الاجتماعي. وعليه وبالجملة فإن مناهج العلوم الاجتماعية هي ضرورة حياتية بالنسبة للمجتمعات وأداة للعلاج والإصلاح والتطوير سواء على مستوى الفكر أو على مستوى الواقع الاجتماعي.

ج- النظرية في علم الاجتماع.

تعتبر النظرية وحدة أساسية في نسق التفكير العلمي، إذ لا وجود لعلم بغير نظريات علمية ولا يمكن أن يتطور بدون تنظيرات علمية. فالنظرية بمعناها العلمي مقولات ومفاهيم تكون في علاقة جدلية مع الواقع تتطور به ويتطور بها ويكون الواقع هو المحك العلمي لتأكيد مصداقيتها وعلميتها فهي "بناء تصوري يبنيه الفكر ليربط بين مبادئ ونتائج معينة" وإجمالا يمكن القول بأن النظرية هي ذلك الإطار التصوري القادر على تفسير عالم الظواهر والعلاقات بغاية البحث عن العلل والأسباب وفهم الواقع الاجتماعي. وفي مجال السوسيولوجيا نجد أن النظرية الاجتماعية بالرغم من التقدم الذي عرفته فهي تبقى قاصرة على الإحاطة بالظواهر الاجتماعية فقدرتها على التفسير والتنبؤ أقل مصداقية وصرامة من حال النظرية في العلوم الطبيعية ومن هنا نتساءل عن طبيعة النظرية السوسيولوجية وأشكالها.. بل وإلى أي حد يمكن تحقيق الموضوعية في العلوم الإنسانية؟

لقد عرف علم الاجتماع نظريات سوسيولوجية متعددة وأنتوني غدنزيري أن مجال النظرية في علم الاجتماع هو مجال خصب وأن الطريقة التي تتم بها دراسة العالم الاجتماعي تختلف من عالم اجتماع إلى آخر فإذا اهتم ماركس بدور القضايا الاقتصادية في تفسير المجتمع فإن ماكس فيبر أخذ بعين الاعتبار دور الذات في تفسير السلوك الاجتماعي أما دوركايم الذي كان له أثر واضح في تطور النظرية السوسيولوجية فقد تعامل مع الواقعة الاجتماعية كشيء بعيدا عن كل الآراء الشخصية. هكذا نجد أن لكل من ماركس وماكس فيبر ودوركايم زوايا مختلفة الشيء الذي يفسر ظهور نظريات اجتماعية متباينة ومن أهمها حسب أنتوني غدنز المدرسة الوظيفية، نظرية الفعل الاجتماعي ثم الفاعلية الرمزية. وإذا أردنا أن نلقي نظرة حول هذه التوجهات النظرية لمعرفة خصائصها وحدودها يمكن أن نقول أن المدرسة الوظيفية أو التحليل الوظيفي يستند إلى فكرة الكل الذي يتألف من أجزاء. كل جزء يقوم بأداء دور وهو معتمد في هذا الأداء على غيره من الأجزاء الأخرى ومن هنا يقوم التكامل والتساند الوظيفي بين الأجزاء بعضها البعض أو بين الأجزاء والكل لتحقيق توازن هذا الكل واستقراره ومن ثم استمراره. ويعد دوركايم رائد المدرسة الوظيفية فهو يمثل المجتمع بالكائن العضوي ويرى أن أجزاء المجتمع تتكامل وتترابط كما هو الحال بالنسبة لأعضاء الجسم البشري لهذا يجب أن ننظر إلى الظواهر في إطار التفاعل والترابط بدلا من النظائر إليها كظواهر منفصلة، أي مدى إسهام أي عنصر اجتماعي أو ثقافي في بقاء المجتمع واستمراره وتكامله واستمراره ونأخذ كمثال هنا أن دور القلب في استمرار حياة الكائن العضوي شبيه بدور كل تكوينات المجتمع في استمراره ودوامه وكذا استقراره وتوازنه باعتبار أن التوازن الاجتماعي هو الحالة الطبيعية للمجتمع.

في اتجاه آخر يمكن أن نقول أنع إذا كانت المدرسة الوظيفية تنطلق من دور البنى والأنساق الاجتماعية في تحقيق التوازن الاجتماعي فإن نظرية الفعل الاجتماعي تؤكد دور الفعل والتفاعل بين أعضاء المجتمع في تكوين هذه البنى الاجتماعية وماكس فيبر في تعريفه للفعل الاجتماعي يؤكد على مستويين أو اتجاهين لفهم السلوك الاجتماعي وهما المستوى الفردي والمستوى الجمعي بمعنى فهم الفعل الاجتماعي من وجهة نظر الفرد صاحب هذا السلوك ومن وجهة نظر الفرد كعضو في الجماعة، فالفعل لا يصبح اجتماعيا إلا إذا ارتبط المعنى الذاتي الذي يعطيه الفرد للفعل بسلوك الأفراد الآخرين. وهنا تركز نظرية الفعل الاجتماعي على الأسلوب الذي يتفاعل به الأفراد فيما بينهم من جهة وفيما بينهم وبين المجتمع من جهة أخرى وعلى الدور الذي يلعبه الفعل الاجتماعي في تكوين البنى الاجتماعية. وقد تطور هذا التوقف بصورة منهجية على يد المدرسة التفاعلية الرمزية مع الفيلسوف الأمريكي ميد من خلال تأكيدها على اللغة والرمز باعتبار أن اللغة هي الوسيلة التي تمكننا من معرفة ذواتنا كما يرانا الآخرون وأن الرمز هو الأساس الذي تقوم عليه مجموع عمليات التفاعل بين الأفراد وهذا التفاعل يتم عن طريق تبادل رموز وإيماءات شفوية وغير شفوية متواضع عليها من طرف مجتمع معين. هكذا يمكن القول أن كل من المدرسة الوظيفية ونظرية الفعل الاجتماعي والتفاعلية الرمزية لها منظورها الخاص في دراسة المجتمع يختلف بشكل أو بآخر عن النظريات الأخرى وهذا الاختلاف حسب أنتوني غدنز لا يعبر عن مواطن الضعف في علم الاجتماع بل هو دليل على خصوبة النظريات السوسيولوجية وحيويتها ومهما اختلفت هذه النظريات فإن علماء الاجتماع يتفقون على أن الباحث يجب أن يضع حدا لآرائه الشخصية وأن يتعامل مع الظواهر بشكل موضوعي لكن هذا لا يعني أن علم الاجتماع هو جهد فكري تجريدي بل يرتبط ارتباطا وثيقا بالمجتمع وبالمواقف التي يواجهها الفرد في حياته. وإجمالا يمكن القول أن العلاقة بين النظريات السوسيولوجية هي علاقة ترابط وتكامل فميرتون عندما يتحدث عن التاريخ المعاصر للنظريات السوسيولوجية يتحدث عنه من توجهين مختلفين الأول ينطلق من بناء نظريات شاملة عن طريق صياغة قوانين سوسيولوجية وتعميمها على الظواهر الاجتماعية دون الاهتمام بالملاحظات الجزئية أو المستويات الصغرى من الواقع الاجتماعي والثاني يعتمد على بحوث جزئية حول وقائع مخصصة والتأكد من صحتها عن طريق الملاحظة والاختبار. هكذا نجد أن ميرتون يلخص تاريخ النظرية السوسيولوجية في اتجاهين هما السوسيولوجية الشمولية والنظرية الاختبارية وكل من هذين التوجهين يعطينا نظرة عن طبيعة النظرية السوسيولوجية وكذا طبيعة علم الاجتماع باعتباره يجد صعوبة كبيرة في تطوير نظرية شاملة وقارة وأمام هذا التعدد النظري نجد إيان كرين يفكر في النظرية الاجتماعية ضمن تصور إبستمولوجي ينظر إليها من خلال أربعة أبعاد: بعد معرفي بوصفها أداة لمعرفة العالم الاجتماعي وعاطفي تتدخل فيها التجربة الشخصية للمنظر الاجتماعي باعتباره إنسان إضافة إلى كونه عالم اجتماع يؤثر في الواقع الاجتماعي ويتأثر به مما ينعكس على طبيعة تصوره للواقع ثم تأملي بوصفها جزء من الحياة تعكس ما يوجد خارج المجتمع وداخله وأخيرا بعد معياري لا تقتصر على ما هو كائن بل على ما يجب أن يكون. وكل هذه الأبعاد الأربعة تساهم في بناء النظرية السوسيولوجية وذلك لفهم واستكشاف مناحي الحياة. وفي نفس السياق نجد بيار أنصار يحاول بدوره توضيح الجدل القائم حول صحة علمية العلوم الاجتماعية وصحة النظريات والنتائج المتوصل إليها. من خلال التمييز بين ثلاثة أبعاد في النظرية السوسيولوجية وهي البعد الإبستمولوجي والبعد النظري والبعد المنهجي أي من خلال معرفة الشروط العلمية لإنتاج المعارف والنظريات العلمية ومدى صحة محتواها النظري وتقنياتها المنهجية.

بالرغم من التقدم الذي عرفته النظرية الاجتماعية فإنها تبقى قاصرة على الإحاطة بالظواهر الاجتماعية موضوع البحث فقدرتها على التفسير والتنبؤ أقل مصداقية وصرامة وبالتالي أقل يقينية من حال النظرية في العلوم الطبيعية بل هناك من يعتبر النظرية في العلوم الاجتماعية مجرد تقليد نظري لمفهوم النظرية في العلوم الحقة ومثل هذا القول لا يطعن في الصفة العلمية للنظريات الاجتماعية ولا في صحة النسبية لحقائقها التي تبقى مقتصرة على الظواهر المدروسة وأزمنتها وأمكنتها وسواء كانت النظرية في ميدان العلوم الاجتماعية تفسيرا أو تفهما فإنها تظل محاولة لتكوين صورة أو نموذج عقلي للواقع الاجتماعي المعقد بطبيعته.

-״- تخــــريج عـــــام-״-

رهــــانــات

بناء على ما سبق يمكن القول أن المعرفة العلمية بالإنسان شكلت مكسبا حضاريا جعل الإنسان يصبو إلى التعرف على أبعاد وجوده الاجتماعي والنفسي وكذا التاريخي، كما يرمي إلى بناء حقيقة علاقته مع ذاته ومع الغير والعالم. كما لعبت المعرفة دورا أساسيا أو جوهريا إن صح التعبير في تحرير الإنسان وتخليصه من بعض الأوهام ثم كسر المألوف والخروج عن المعتاد أي تحطيم زجاجة الظلال والدغمائية، خصوصا مع تبني نموذج العلوم التجريبية الذي أثبت نجاحه، بيد أن تبني النموذج يطرح سؤال إمكانية استيعاب الإنسان فعليا داخل نظرية علمية هنا يتبادر إلى أذهاننا بعض التساؤلات لا يمكن طرحها في هذا السياق على المنوال التالي

ألا يمكن القول إن معرفة الإنسان بذاته وبغيره تنقلت من القياس والتنبؤ؟ وإذا كان العلم الموضوعي قد تجاهل الإنسان ونسي المعيش، فهل نعتبر هذا النسيان أو التجاهل مبررا كافيا لرفض العلم التجريبي ومناهجه؟ هل نتحفظ بشأنه أم نطلبه بدعوى قدرته على الفهم والتفسير؟

إن مجتمعنا اليوم، هو في حاجة أكثر من أي وق مضى إلى أن يعرف نفسه علميا وموضوعيا، لكن ألا تواجه هذه الحاجة الملحة إلى اليوم، عوائق ثقافية وإيديولوجية؟ ما مكانة العلوم الانسانية في ثقافتنا؟ أين تتجلى صور ومظاهر هذه العلوم؟ هل يمكننا أن نستنتج معرفة علمية ببنية مجتمعنا المغربي؟
hager el fezazi
hager el fezazi

عدد المساهمات : 102
تاريخ التسجيل : 06/12/2009

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى