منتدى الفلسفة ـ المدرسة العليا للأساتذة - فــــــــاس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الفلسـفـة والعـنف من وجهة نظر إريك فايل

اذهب الى الأسفل

الفلسـفـة والعـنف  من وجهة نظر إريك فايل Empty الفلسـفـة والعـنف من وجهة نظر إريك فايل

مُساهمة  hager el fezazi الأحد مارس 21, 2010 11:34 am

"الآخر بالنسبة للحقيقة ليس هو الخطأ. بل العنف، أي رفض الحقيقة والمعنى والتماسك الـداخلي، إنه اختيار الفعل السالب واللغة المفككة والخطاب " التقي" الذي يقدم الخدمة دون التساؤل عن الغـاية، إنه اختيار االصمت." إريك فايل"إن العنف الذي يتكلم هو عنف يبحث عــن المعقــوليـة. إنـه عنف دخل مـدار الـعقل، أي العنف وقد بدأ ينكر ذاته كعنف". بول ريكور

مصطفى كاك
يشكل التعارض بين الفلسفة والعنف موضوعا جديرا بالتحري الفلسفي، فهو يكاد يغطي مجموع المشاكل الفلسفية، التي طرحها الفكر الغربي، بصدد الإنسان، في المنطق و الأخلاق والانطولوجيا. ومن هنا أهمية هذا الموضوع وكذلك صعوبته: تظهر أهمية الموضوع مباشرة في السؤال عن الإنسان في علاقته بالعقل من جهة وبالعنف من جهة أخرى. غير أن الصعوبة الكبرى تنكشف منذ البداية، فالفلسفة ليست هي الحكمة، بل فقط الطريق إلى الحكمة: إنها منطق وانطولوجيا وتاريخ. فكيف تجمع الفلسفة، داخل الإنسان، بين العقل والعنف ؟وبأي معنى يقال إن الإنسان كائن عاقل؟ هل العنف هو فعل القتل أو الموت الذي يلحقه الإنسان بالإنسان؟ أو المقصود كذلك عنف الطبيعة عند ما تكون غاشمة ولا يتمكن الإنسان من التحكم فيها ؟ أم أن العنف هنا هو عنف الإنسان بوصفه حيوانا عاقلا أي ناطقا : يتكلم ويعبر وله خطاب؟ وإذا كان الأمر كذلك فالسؤال الأكثر عواصة هنا هو سؤال العلاقة بين العنف واللغة : كيف ندرك العلاقة بين اللغة والعنف ؟ وهل ثمة إمكانية للاختيار بينهما؟ ثم إلى أين يتجه العنف اليوم ؟ هل للفلسفة من مستقبل في مواجهة العنف؟

سنحاول متابعة هذه المواجهة بين الفلسفة و العنف من خلال نصوص إريك فايل، وبصفة خاصة كتابه الرئيسي "منطق الفلسفة"[1] وسنعمد أولا إلى التحري في شأن التعريف الذي يضعه فايل للإنسان، في علاقته بالعـقل وبالعنف. ثم نلج صلب المشكلة التي هي علاقة العنف باللغة. ونختم بالسؤال عن مستقبل الفلسفة، باعتبار هذا المستقبل محكوما بصيرورة المواجهة مع العنف.

I – من هو الإنسان؟[2]

أ – مسألة التعريف : ينطلق تفكير إريك فايل من تعريف الإنسان، بوصفه مدخلا للموضوع. فالإنسان. خلافا للحيوان.يحمل ويحتمل أكثر من تعريف وهناك ما يبرر ذلك : فالإنسان هو من يضع التعريفات. فكيف لا يعتني أكثر بمعرفة ماهيته؟ ورغم كثرة الصيغ التي تقدم تعريفا للإنسان، فإن هناك صيغة واحدة هي الأكثر استعمالا من غيرها. لأنها ترسخت أكثر بواسطة التقاليد الفلسفية و الدينية. ولأنها تشكل تاريخيا أساس الحضارة و الفكر.

لقد جرت العادة أن يتم تعريف الإنسان بأنه الحيوان الذي يملك العقل و اللغة. وبالضبط اللغة المعقولة. ويحيل هذا المعنى إلى كلمة لوغوس logos اليونانية التي تعني كذلك الكلام. وإلى كلمة راسيوRatio اللاتينية التي ترتبط أكثر بملكة الحساب و التأمل.

والحال أن هذا التعريف أكثر مدعاة للدهشة. لأنه لو قلنا إن الإنسان هو الحيوان الذي تجتمع فيه المتناقضات. أو إنه الحيوان الذي يضحك أو الحيوان الذي تطور لديه حس الذوق أكثر. مقارنة بالحيوانات العليا. لكان هذا القول. في وقت واحد. أكثر علمية وأكثر حذرا. فالخصائص المعلن عنها في هذه التعريفات- وفي تعريفات أخرى. أكثر حداثة. لكنها أقل تعارضا مع التعريف الأول-. يمكن تبينها بسهولة بحيث لا تسمح بتاتا بأي التباس. هذا فضلا عن كون العلماء أنفسهم- وهم أناس ما إن يغادروا مختبراتهم وأبحاثهم حتى يعودوا إلى الحديث و التفكير مثل عامة الناس – يتحفظون على هذا التعريف الكلاسيكي، ليتركوه للفلاسفة.الذين هم في نظرهم أناس يتكلمون باسم الحس المشترك. أي أنهم أناس يقومون بصياغة ما يفكر فيه الجميع. و المقصود بذلك أنهم بدون منهج وبدون ضوابط.[3]

غير أن هذا. في حد ذاته. ليس بالأمر الخطير. في نظر فايل. لأنه إذا كان الفيلسوف هو من يقوم بصياغة ما يفكر فيه الجميع.أي العالم بأسره فهو بذلك يؤدي وظيفة نافعة. كما أن ما يقوم به خلال ممارسة هذه الوظيفة سيكون أعلى شأنا بالنسبة لمن يمثلهم. أي بالنسبة لجميع الناس. ومن ضمنهم العلماء أثناء حياتهم العادية التي تشمل نشاطهم المختص. إن الأمر الخطير هنا هو أن الفلاسفة أنفسهم غير مقتنعين بالتعريف الذي وضعوه للإنسان. وفي جميع الأحوال يبدو أنهم يحتفظون بشكوك، إن لم يكن بخصوص قيمة الصيغة المذكورة. فعلى الأقل. بخصوص الحق وإمكانية تطبيق تلك الصيغة على جميع الأفراد الذين يندرجون تحت مفهوم الإنسان.

إن الفلاسفة حتى عندما يفتقدون الصدق. فهم يقرون دائما أن الإنسان العيني. أي الفرد. ليس عاقلا فحسب. صحيح انه لا يعدم العقل. لكنه يمتلكه بدرجة قد تزيد أو تقل. وربما لن يصل أبدا إلى امتلاك شامل للعقل بكامله. كما يمكن أن يحرم منه كلية. والدليل على ذلك وجود الحمقى والمغفلين. هذا أمر لا جدال فيه ولا احتجاج عليه، والإنسان. في بعض اللحظات. وفي أماكن معينة. افتقد العقل إلى الحد الذي جعله يقتل الفيلسوف[4]

لكن ألا يمكن تجاوز اختلافات العلماء وشكوك الفلاسفة بصدد تعريف الإنسان؟ ألا يكفي العقل و اللغة المعقولة كعلامات مميزة ؟ ثم ما هو التعريف الجيد للإنسان؟

كحل لهذه المعضلة ينبغي أن نحدد الهدف من تعريف الإنسان : فالإنسان حيوان يملك العقل و اللغة. لكن هذا لا يعني أن البشر يتمتعون بالعقل و اللغة المعقولة بشكل تام. وإنما يعني فقط أنه يلزمهم توفر ذلك ليصبحوا بشرا بالتمام. فالإنسان الطبيعي حيوان. أما الإنسان كما يريد أن يكون الآخر. حتى يعترف به كمعادل له. هذا الإنسان ينبغي أن يكون عاقلا. صحيح أن العقل ليس مهما في حد ذاته،لكن ينبغي أن نتحدث عنه،لأنه تقرر أن الإنسان العيني. أي الفرد. أنا وأنت والآخرون. غير عاقل. وربما لن يكون أبدا كذلك. إن الإنسان أي أنا وأنت. وهم، يلزم أن نكون عاقلين بأن نصير عاقلين. إن الهدف من تعريف الإنسان ليس هو معرفته بل تحقيقه.[5]

أهمية هذه النتيجة أنها تنقلنا من المنطق إلى الانطولوجيا. والحال أن الفلاسفة تشبثوا دائما بالمنطق. لكونه يبحث عن التماسك في الخطاب. ويعمل على تطهير الكلام من التناقض. غير أن هذه الوظيفة المعرفية ليست أساسية إلا لأنها تتيح فهم علاقة العقل بالعنف. فالمنطق يقنن الحوار. وبالتالي يرفع التناقضات. بحيث يصبح الحوار ممكنا داخل "المدينة". والحوار هو المؤشر على تماسك المجموعة البشرية وهدف المنطق. بهذا المعنى. ليس هو تماسك الخطاب في حد ذاته. بل تماسك الجماعة. وهذا يعني كذلك أن الحوار ليس قيمة بيداغوجية فحسب. بل سياسية. واجتماعية بالأساس. فهو أداة لمواجهة العنف السياسي داخل " المدينة".

لكن التاريخ كان أقوى من الحوار –كما يبين إريك فايل- وتماسك الخطاب لا يضمن المعقولية التامة. لذلك نشأت الانطولوجيا على أنقاض المنطق. فمعيار الحقيقة لم يعد هو عدم التناقض. بل إن التناقض لا يوجد داخل الخطاب. وإنما بين الخطاب والوجود. فرغم الحوار تفككت المجموعة البشرية وسقطت الدولة وانعزلت الفلسفة. لكن يبقى الفيلسوف مصرا أن يختفي العنف من العالم وهو إذ يعترف بالحاجة ويقبل الرغبة ويوافق على أن الإنسان يبقى حيوانا مع كونه عاقلا، يبحث عن تماسك جديد لأساس المجموعة الإنسانية داخل الوجود. إن اتفاق المجموعة وتماسكها. وانتصارها على العنف. لا يتحقق إلا إذا تحول الخطاب الفلسفي من خطاب يعبر عن التقليد الاجتماعي. أي المصالح العامة للأفراد. إلى خطاب لا- شخصي. فعندئذ تكون الفلسفة قد أصبحت تتكلم.لا باسم مجموعة بعينها. بل باسم المجموعة الإنسانية برمتها. وعندئذ تكتشف جذور العنف. لا داخل الحوار فقط. بل داخل الوجود.

ب- الإنسان عقل. في هذا السياق. يبحث إريك فايل عن تعريف للإنسان اعتمادا على ما يفعله الإنسان لاما يقوله. وانطلاقا من الإنسان العيني الفرد. لأنه عندئذ ينكشف الإنسان بوصفه "حيوانا يريد شيئا من ذاته لأجل ذاته"[6] فالإنسان كائن حي مثل باقي الكائنات الأخرى. لكنه إذ يشبه الكائنات الأخرى.لا يماثلها تماما. إن له حاجات. لكن له أيضا رغبات و الحاجات خلقها هو ذاته. ولم تكن في طبيعته. بل أضفاها هو على ذاته. وبذلك جعلها لأجل ذاته : فالإنسان. مثلا، يتمتع بالغريزة الجنسية مثل الحيوانات الأخرى. لكنه لا يقنع بامتلاك الشريك. بل يرغب أيضا في أن يكون محبوبا من طرفه[7].

لكن هذه التوضيحات لم تزد موضوع التعريف إلا غموضا. فنحن لا نعرف بعد علاقة الإنسان بالعقل: أي لا نعرف الوجهة التي يتخذها نشاط العقل ذاته. فبأي معنى –إذن – نقول إن الإنسان عقل ؟ وما هو هذا العقل الذي وجب أن يميز الإنسان عن غيره ؟[8]

لا يهتم فايل بالتعريف العلمي للإنسان. بل هو ينتقده. كما يظهر ذلك بوضوح في كتاب "منطق الفلسفة"[9]- لصالح "تعريف إنساني". باعتبار الأول مجرد وصف للمادة التي ينبغي إعطاؤها شكلا. أما الثاني فهو ليس معطى بحيث نستطيع أن نتعرف فيه مباشرة على الإنسان. ونفس الشيء بالنسبة للعقل. فهو ليس معطى مباشر. وليس مجرد مجموعة من القواعد والمبادئ التي يكفي اتباعها للوصول إلى الحقيقة : العقل فكر وممارسة أو بعبارة أدق هو عملية تحقق معقدة للفكر و الممارسة.

يقدم فايل تعريفا للإنسان. يتجاوز التعريف السابق من حيث أنه أكثر تشخيصا : "الإنسان هو الكائن الذي يبحث....عن تحقيق الإشباع. وبعبارة أدق.. يبحث عن التحرر من عدم الرضي. إن اسمه الحقيقي لن يكون هو الإنسان العارف Homo Sapiens) ). بل الإنسان الصانع (Homo Faber)، ليس الإنسان العارف. بل الذي يفعل ويصنع"[10].

ينبغي أن نعرف أن الإنسان هو الحيوان الذي يتكلم. بل هو الوحيد الذي يستعمل اللغة لقول لا. فالإنسان - خلافا للحيوانات الأخرى. يجهل ما يريده، لكنه يعرف جيدا ما لا يريده. وبفضل اللغة يستطيع الكلام عما لا يوجد. بل لا يعرف الكلام إلا عما لا يوجد. إنه يتكلم بسهولة عما لا يوجد بعد. وعما كف عن الوجود (ومن هنا قوة ملكة السرد لديه). لكنه يفشل كلما حاول الكلام عما هو موجود. إن كل حكم غير مطابق. يكون كذبا إذا أخذناه كحكم. وليس للتعبير عن إحساس إنساني. عن رغبة. عن هوى وعن حاجة ما.

يصبح الإنسان عارفا بفضل السلب. فبما أن اللغة ليست أداة موجهة لقول ما يوجد. بل للتعبير عما لا يشبع الإنسان، ولصياغة ما يرغب فيه. فإن مضمونها ليس مكونا مما يوجد. بل مما لا يوجد. وهذا يعني أن الإنسان لا يكتفي بتحويل ما يعطي له – فهذا ما يفعله النحل أيضا. بل يقوم بتحويل نمط التحويل ذاته. من حيث هو معطى وطبيعي. فهذا ما سيطلق عليه اسم "التقنية ". والإنسان لا يغير الطبيعة فحسب. بل إن قدرته على النفي تغير طرق التغيير ذاتها. و الحال أن اللغة هي الأداة الإنسانية النوعية لهذا النشاط السالب و المحول. والذي هو الفكر أو العقل.[11]

الإنسان إذن عـقــل. من حيث هو قدرة على السلب بواسطة اللغة. وهو بذلك يكون إنسانا عارفــا (Homo Sapiens). لكنه كذلك عقل من حيث قدرته على التحويل. تحويل طرق التحويل ذاتها: إنه إنسان صانع ( Homo Faber) بفضل التحويل الممارس على الطبيعة "إن العاقل هنا يعني : القدرة على تحقيق النفي الخاص بالذات. لا الاكتفاء بقول لا لما يوجد. بل إنتاج ما لم يكن موجودا انطلاقا مما هو موجود. أي إنتاج موضوع جديد وطريقة جديدة متحررين مما كان مزعجا في الشيء. وفي نمط التحويل. اللذين منحتهما الطبيعة للإنسان"[12]

إن الحكم بأن "الإنسان حيوان عاقل". ليس حكما مثل أحكام العلم. أي مشروعا يقصد تغيير العالم أو نفي الأخطاء. بل هو تعبير عن أسمى تطلع إنساني وأعلى ما في الإنسان من طموح : فالإنسان عندما يعلن ذاته كذات عاقلة. فهو لا يتكلم عن واقع. ولا يدعي الكلام عن واقع. بل هو يعبر عن أسمى رغبة لديه. وهي الرغبة في التحرر، لا من الحاجة – فهو لن يتحرر منها أبدا-، بل من الرغبة ذاتها.[13]

إن السؤال: من هو الإنسان ؟ ما يزال مطروحا. وجواب إريك فايل. عبارة عن تأمل فلسفي. في هذا السؤال للوصول به إلى أقصاه. أي إلى الطرف الآخر من العقل. أي اللاعقل. الذي هو العنف. فعندما نقول إن الإنسان حيوان يمتلك لغة معقولة فذلك ليس كما نقول إنه يمتلك يدين او رجلين. وعندما نقول إنه "صانع" فليس بنفس المعنى الذي ينطبق على النحل مثلا..إن الإنسان عقل. وليس فقط عقلا عاقلا، فهو عقل مقيد داخل جسم حيواني غير مكتمل. إن له حاجات ونزوعات عمياء وانفعالات.

يقول إريك فايل :"إن النشاط الحقيقي للإنسان يكمن في تحويله هذا الوجود المركب في اتجاه تقليص الطرف الأقل عقلانية فيه – بقدر الإمكان- ليصبح في نهاية المطاف عقلا بكامله. غير أنه لن يمكنه النجاح في ذلك كلية وبشكل مطلق. إذ سيظل دائما يجري وراء بقية من حيوانيته".[14]

لكن هل هذا يعني أن العقل لا يكتمل إلا باللاعقل؟ وبالتالي هل الإنسان بقدر ما هو عقل. هو عنف؟ وإذا كان الأمر كذلك فما دور الفلسفة في ذلك؟ وما الذي يجب على الفيلسوف القيام به؟

ج- الإنسان عنف. الإنسان عقل بالتأكيد. أو هو كائن عاقل بواسطة النفي المزدوج الذي تقوم به اللغة. فاللغة حسب إريك فايل –هي الأداة التي تحول التجربة التي يعيشها الإنسان إلى تجربة كلية. لكن الإنسان كذلك رغبة. حتى وهو يسعى إلى التحرر من الرغبة. فهو يبقى كائنا راغبا. وإذا كان لا يستطيع أن يتحرر من الحاجة –وهذا أمر لا يقلقه. فإنه إزاء الرغبة مضطر أن يختار : لكنه لا يعرف كيف يختار. ولا ماذا يختار. إن النفي التام للرغبة يعني الوصول إلى لحظة الصمت،أي إدراك الحكمة. لكن حتى الفيلسوف ليس حكيما. هو فقط على طريق الحكمة..إنه محب للحكمة كما يدل اسمه[15]

والفلسفة تعلم جيدا أن خطاب الحكمة غير موجود.بل ما يوجد حقا هو الطريق إلى الحكمة. وهو طريق هدم القدرة على النفي بواسطة النفي، و الدعوة إلى الانقلاب. و التخلي عن اللغة بمساعدة من اللغة. لذلك كانت الفلسفة مجبرة دوما على العودة إلى الخطاب. الذي هو خطاب تهكمي في جوهره. وهو كذلك لأنه يبذل أقصى الجهد لكي لا يظهر كذلك.فالخطاب ليس هو المهم. وهو كخطاب يعلم ذلك. ويعلم أن المهم لا يمكنه قوله.لأنه سيزيفه إذا ما حاول أن يقوله. بدل أن يشير إليه بواسطة الكلام عن نقيضه. والتظاهر كما لو أنه يتعامل مع ذلك النقيض بكل جدية.

لكن عمل الفيلسوف يواجه مع ذلك بالسخرية. وهو يعيش دائما على حافة الخطر. وعامة الناس ينظرون إلى الفلاسفة ككائنات غريبة. ومثيرة للاستغراب. ويعتبرونهم متميزين: فهم كبشر لا يشبهونهم. والإنسان الذي يقول لمخاطبه "أنت فيلسوف" ليس لديه نية الإساءة. لكنه مع ذلك. وفي جميع الأحوال. يود الإشارة إلى أن الآخر. من حيث هو فيلسوف. لا يفهم شيئا في الأمور الجدية للحياة. غير أن الإنسان العادي الرافض للفلسفة. يرتبك بسرعة إذا ما طلب منه إتمام جملته. وقول ما يدور في رأسه بوضوح. و الحقيقة أن ما يبدو، للإنسان العادي. غريبا في حالة الفيلسوف. لا يوجد فعلا في رأسه. وهو غير قادر على استخراج أي شي من رأسه. فالآخر في نظره –أي الفيلسوف– ذكي ويعرف كيف يعبر عن نفسه. فلا ينبغي مناقضته أو محاولة ذلك لأنه قوي جدا، ويتوصل دائما إلى إقناع المرء أنه على خطأ. وهذا ما يربك الإنسان العادي فيصبح عنيفا. وهو عندما يصرح قائلا للفيلسوف: "أنت. إنك فيلسوف". فإن عبارته تكشف عن مديح مبطن بالسخرية. إن ما يريد قوله هو أن كل ما يجيده الفيلسوف عديم الأهمية في الحياة العادية.

غير أن الإنسان العادي قد يختار –في عنفه- أحيانا أسلوبا أفدح لمواجهة الفيلسوف. هو جدار اللياقة والإفراط في التأدب. فهو يقول للفيلسوف : "أنت. ياسيدي. إنك فيلسوف".وبدوره يفهم الفيلسوف أن ما يقصد بذلك هو : "سيدي إنك تزعجني. لنتحدث عن أشياء جدية أو لنفترق". و الفيلسوف قادر. من جهته.على إقناع الآخر لو رغب في الاستماع إليه. لكن في الواقع الآخر لا يرغب في الاستماع إلى الفيلسوف.

في هذه الحالة. ماذا يفعل الفيلسوف؟ أو ما الذي ينبغي عليه القيام به؟ لو كان الفيلسوف حكيما لكان من السهل إعطاء الجواب التالي : ينبغي ترك الناس على حالهم. و البحث عن خلاص الذات والرضا بالوصول إلى الصمت المليء بالحضور التام. لكن الفيلسوف –كما ذكرنا –ليس حكيما. ولا يملك الحكمة. لذلك فهو يتكلم. ولابد أن يتكلم حتى عندما يكون الهدف من خطابه هو الانمحاء. إن عليه أن يتكلم باستمرار. مادام ليس لديه ما يفعل غير ذلك. وإذا كان الفيلسوف يزعج بكلامه عامة الناس –بما فيهم العلماء و الساسة– فلأنه يعتبر العقل غاية وليس مجرد أداة. و بالتالي يكون الصمت أو السكوت. في حد ذاته. ضد العقل أو هو اللاعقل أي العنف.

ميزة الفيلسوف أنه ينكر الخطاب بواسطة الخطاب، ويلغي النفي بواسطة النفي. وهذا يعني أنه لابد أن يكون لخطابه موضوع أو مادة تلتهمها قدرة النفي لديه كفيلسوف. لكنه إذ يمارس الفلسفة يعلم أنه لن يتخلص من النفي ولن يحقق لحظة الحضور التام. وهو يدرك جيدا أن هذا الاختيار ليس نهائيا.أي أن ما يهدد العقل. وهو العنف. لن يختفي من العالم. وهو يراهن على التاريخ والاكتمال التدريجي للعقل داخل التاريخ. لكن "الفيلسوف" يدرك جيدا أن التاريخ ليس دائما مجالا لاكتمال العقل. بقدر ما هو تهديد للعقل وعودة الرغبة في العنف.

لكن ما يخشاه الفيلسوف ليس هو عودة الرغبة : فهو يقر أن مصدر الفلسفة يكمن في الرغبة وفي النفي الأولي. إن ما يخشاه هو الرغبة غير المشروعة. وهذا يعني أن هناك رغبات مشروعة وأخرى غير مشروعة. والسؤال الذي يطرحه فايل هو : لماذا يتكلم الفيلسوف عن الرغبات المشروعة والرغبات اللامشروعة؟ ولماذا يمنع بعض الرغبات مادام قد كف عن منع الرغبة ؟

جواب فايل واضح وصارم : "إنه الخوف من الخوف" وهذا معناه الخوف من العنف من حيث هو "شر أصلي"[16] صحيح أن الفيلسوف ليس جبانا. ومحاكمة سقراط تؤكد أنه لا يواجه الموت فحسب بل قد يختارها إذا ما اضطر للاختيار بين حياة لاعقلانية وبين نهاية وجوده. لكن الفيلسوف يخاف مما ليس عقلا فيه ويعيش مسكونا بهذا الخوف. بل إن كل ما يفعله أو يقوله أو يفكر فيه. يكون موجها لاستبعاد هذا الخوف. إنه لا يخاف الرغبة ولا الحاجة. وكيف يخافهما وهو لا يخاف الموت. إن ما يخافه حقا هو الخوف ذاته "لأن الخوف هو الذي يدفعه. أكثر من أي انفعال آخر. إلى أن يفقد السيطرة على ذاته"[17].

صحيح أن الفيلسوف قرر قبول العنف وتحمل كل ما يمكن أن يحدث له. ومقاومة كل ما يريد السيطرة عليه. مقاومة قد تصل إلى حد الموت. لكنه مع ذلك يبقى مجرد إنسان. فهو لم يصبح بعد حكيما : "إنه يريد أن يختفي العنف من العالم. وهو يعترف بالحاجة ويقبل الرغبة ويقر أن الإنسان يبقى حيوانا مع كونه عاقلا. المهم لديه هو استبعاد العنف"[18].

استبعاد العنف هو اختيار الفلسفة، إنه اختيار فلسفي. وبذلك نصل إلى التعريف الذي يصوغه إريك فايل. كجواب على السؤال : من هو الإنسان ؟ :"بدل القول إن الإنسان كائن عاقل. سنقول إنه كائن يستطيع. إذا اختار ذلك. أن يكون عاقلا. وأنه باختصار حرية للعقل (أو للعنف)[19]" والحال أن هذا التعديل في تعريف الإنسان. أقل وزنا في الظاهرة. لكنه مع ذلك يدل على وحدة الفلسفة وتاريخ الفلسفة، فلا وجود لفلسفة نسقية منفصلة عن وعي الفلسفة بتاريخها الخاص. بل أكثر من ذلك. إن الفلسفة لا تفهم إلا في تاريخها. وهي ليست سوى الوعي بتاريخها. وهو ما يتناساه الخطاب النسقي أو ينكره.

II . العنف واللغة.

أ –عنف اللغة. إذا كان العنف هو مشكلة الفلسفة. فإن المواجهة بين العنف واللغة هي مسألة فلسفية. يتوقف على فهمها وحلها. مستقبل الفلسفة ذاته. والحال أن هذه المسألة بدورها تغطي مجموعة من الأسئلة التي يمكن أن نطرحها بصدد الإنسان. فالمواجهة بين العنف واللغة تشمل مجالا واسعا. بحيث لا يمكن اختزالها فقط في الطبيعة الخارجية التي نصارع ضدها، أو الطبيعة الموجودة في أنفسنا. والتي غالبا ما تجرفنا نحو الحقد والكراهية. بل إن ما يعطي لمشكلة العنف الوحدة، ليس كون تعبيراته الكثيرة مشتقة من هذا الشكل أو ذاك. باعتباره شكلا أساسيا. بل إن ما يوحد "امبراطورية العنف"، كما يصفها بول ريكور. هو أن لديها اللغة المتبادلة بين مختلف الأطراف.

يمثل العنف مشكلا. فقط بالنسبة لكائن يتكلم. ويتابع في كلامه المعنى. أي الكائن الذي خطا خطوة داخل المناقشة والحوار. ويعرف شيئا ما عن العقلانية. فبالنسبة لهذا الكائن يصبح العنف مشكلة. وبذلك يكون للعنف معنى في غيره : اللغة. والعكس صحيح. فالكلام والمناقشة العقلانية تستمد وحدة المعنى من كونها تعمل على اختزال العنف وتقليصه وذلك لأن "العنف الذي يتكلم هو عنف يبحث عن المعقولية. إنه عنف دخل مدار العقل وبدأ في إنكار نفسه كعنف"[20].

وتتركز أطروحة فايل. بصدد مشكل العلاقة بين العنف واللغة. في القول :"إن اللغة هي التي تظهر العنف"[21]. فالإنسان بوصفه كائنا متكلما أي مفكرا. هو وحده من يكشف العنف، لأنه الوحيد الذي يبحث عن المعنى بل هو الوحيد الذي يبتكر ويخلق المعنى لحياته وللعالم. وإذا كانت الحيوانات عنيفة أو متآلفة، فإنها ليست كذلك إلا في نظر الإنسان. الذي يعطي معنى لحياته داخل عالم منظم يمكن فهمه. إن الحيوانات لا تتواجه،فيما بينها، لكي تبتكر ذاتها. فهي كما هي. بدون زيادة أو نقصان. وإذا كان لها تاريخ. فالإنسان هو الذي يكتبه.الإنسان وحده يعرف ويميز العنف والعبث وما ليس له معنى. وما يحصل ضد إرادته ورغبته.أما الحيوان فلا يعرف العنف، لأنه لا يخلق المعنى : فليس هناك حيوان يجد من العبث أن يموت جوعا. إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي ينظر إلى الموت جوعا كحدث بلا معنى وكعبث. إنه الوحيد الذي يقول لا لما ليس له معنى[22].

إن التعارض بين العنف واللغة يجر سلسلة من التعارضات: العنف والحق، العنف والسلم، العنف والتعاون. وهذا التعارض قد يبدو واضحا والاختيار سهلا أمام الإنسان العادي و"الطيب". الذي يعتقد أنه يتوفر على معايير بسيطة في ذاتها. تمكنه من الاختيار. والحال أن الفيلسوف يحتار. أمام عواصة تطبيق المعايير في الواقع. إذ كيف نختار بين العنف واللغة؟ وهل هناك من إمكانية للاختيار؟

من المؤكد أنه يمكن للإنسان أن يفكر في مواقف متطرفة. إذا أراد الاختيار. حيث تتاح أمامه إمكانيات العنف الصامت و الوحشي. ويقع التخلي عن كل أشكال التواصل. ويمنع أي ارتباط بالآخرين. لكن هذه المواقف كلها ينعدم فيها الاختيار وبالتالي تنعدم معه اللغة.

لقد واجه الإنسان مشكلة العنف منذ البداية –بداية التاريخ الذي هو تاريخ الوعي– بمحاولة إعطاء معنى لحياته. وبتنظيم نفسه لمواجهة عنف الطبيعة الخارجية وخلق عوالم إنسانية صالحة للعيش كما وضع قواعد لحياته. اشتغل وأنشد الشعر. نظم الإنسان إذن نفسه في جماعة وفقا لقوانين وقواعد، وبذلك واجه عنفه الداخلي."إن الشقاء لم يعد مجرد عبث و السعادة ليست محض صدفة. كلاهما يكون مستحقا[23].

العنف و العبث. لا مكان لهما داخل الجماعة. وإذا ما ظهر العنف من وقت لآخر. فإن مصدره يعتبر خارجيا. أي كعنف ضد الجماعة و الشخص العنيف ينظر إليه كغريب عن الجماعة، ولا ينتمي إلى نظامها. وهنا تظهر اللغة كتثبيت لذلك النظام. فتعلن أن هناك مجانين وممسوسين،و أن مصدر العنف ليس الجماعة. بل أفراد غير عاديين. كائنات غير بشرية ومضادة للطبيعة. إنهم مسوخ وبالتالي ينبغي القضاء عليهم أو اجتثاثهم.

لقد اعتبر العنف دائما إخلالا بتوازن الجماعة. وتصدعا يأتي من الخارج، وأن مواجهته تقتضي وجود" عنف مشروع". أو "عنف مقدس". فالصراع بين الجماعات يتم تبريره باللغة. باعتبار الصراع ضد الجماعات الأخرى، يدخل ضمن الصراع ضد الطبيعة الخارجية. إن أولئك الذين لا ينتمون إلى الجماعة ولا يعيشون داخل نفس العالم. ليسوا بشرا. بل هم جزء من الطبيعة الخارجية التي يناضل ضدها العمل والشعر.[24]

في الواقع. لا يهتم إريك فايل بالتأريخ للعنف. لكنه يلمح لهذا التاريخ الطويل. الذي هو تاريخ الغرب، بوصفه تاريخا للهيمنة، بدأ بتفكك البداهة الأساسية التي قام عليها الوجود الفعلي. ثم بالاتصال الذي تم فرضه على المغلوبين. مع إقحام طبيعة جديدة لا تأخذ المعنى إلا عند من أصبحوا هم السادة. ثم بالشغل الذي هو مجرد تحويل لمواد ميتة. يستفيد منه فقط الذين لا يساهمون فيه. لكن المهم هنا، في هذا التاريخ. هو أن العنف سيظهر لأول مرة كعنف عار، له اسم. مفكر فيه ومكشوف لدى الجميع. من قبل كان العنف يتوارى خلف ستار الكونية. فلم يكن يرى، أما الآن –بعد تفكك الجماعة – فقد صار مرئيا يتجلى عبر ملامح كثيرة : عنف السيد إزاء العبد. تمرد العبد على السيد. عنف العبد إزاء الطبيعة. عنف الطبيعة إزاء الجميع. والعنف المتبادل بين السادة أنفسهم.

لم يعد بمقدور السادة الاحتفاظ باللغة القديمة لعالم معقول يتناقضون معه بأفعالهم. كما لم تعد اللغة المقدسة سوى زخرفة واعتذار أمام الآخرين : لم يعد هناك من وجود للجماعة. لقد نشأ المجتمع الذي مركزه الصراع المزدوج ضد الطبيعة الخارجية ولأجل تملك الثروة الناتجة عن العمل. وهذا يعني أن وجود السادة هو وجود العبيد، الذي هو عالم الشغل. وهذا الواقع هو الذي سيظهر عند بداية التاريخ.

يقدم فايل نموذج أفلاطون. باعتباره كان مدركا لهذا الواقع. حين جعل الثروة وقفا على الفئات التي لا تمارس السياسة. لكن الدولة الأفلاطونية تبقى دولة طوباوية. لا وجود لها. لأن السادة كانوا دائما مهيمنين على الثروات. ومع ذلك فقد عبر أفلاطون –بفكرته عن الدولة – عن الارتباط بين امتلاك الثروة وضياع المعنى، بين الثروة والعنف، وبين العنف واللغة. لقد أصبحت لغة المجتمع هي لغة الفعالية. ولا ضرر في ذلك, مادام ان تلك اللغة هي التي أنشأت المفاهيم المنظمة للموضوعية وللواقعة التي يمكن التحقق منها و الحقيقة الصورية. وهي التي جعلت العمل يستند على معرفة خالصة. معرفة منزهة عن الرغبة المباشرة للفرد.

وبهذا تبدد العالم كوحدة ذات معنى، وحلت محله طبيعة يمكن معرفتها وتحليلها، ويمكن كذلك تفكيكها إلى عوامل تسمح بالسيادة عليها. وهذا يعني أن العنف بين الأفراد –والذي ميز فترة التفكك والانقسام – قد تمت السيطرة عليه بالتدريج. فالإنسان الراغب في أكبر قدر من الثروة أصبح من مصلحته تسهيل عملية الإنتاج : لأن العنف غير منتج لكونه يزعج ويهدم. بل أكثر من ذلك. العنف خطير. وامتلاك الثروة بالعنف فيه دائما شيء من الإغراء.إلا أن عيبه الكبير هو استعداد الجميع لاستعماله. كما أن من يستعمل العنف قد يجد نفسه أمام قوة الآخرين المجتمعين ضده.[25]

يقوم الإنسان إذن، في مواجهة العنف الخارجي. بالتواجد ضده. ومواجهة عنفه الداخلي بتهذيب الرغبات الطبيعية : فعليه أولا أن يعرف كيف يهذب رغباته وينتظر ما سيعود عليه من العمل المشترك فهو لم يعد يطالب بكل ما يرغب في امتلاكه. بل هو يطالب فقط بحقه، مادام يساهم في عملية الإنتاج وأصبح عضوا في مجتمع الشغل. بل إنه لم يعد سوى ذلك المكان الذي يحتله في العالم. إنه ليس أنا وليس شخصية، إن ماهيته هي شغله. أي ما يفعله. إنه بمثابة شيء.[26]

لقد أصبحت اللغة المطابقة لهذا العالم. لغة بدون عنف. فالمناقشة هي السائدة هنا لأجل خلق اتفاق موضوعي. فإذا كانت اللغة الأولى تجعل العنف غير مرئي. وبالتالي غير موجود بالنسبة لمن يتكلم تلك اللغة. وإذا كانت لغة الصراع غير المنظم بين الأفراد تسودها صيغة الأمر (mode impératif) المدعم بالتهديد، فإن لغة النقاش. اللغة العقلانية تتميز بالصيغة الدلالية(mode indicatif) و الحكم الافتراضي. وبما إن الأشياء كذلك. فإنه ينبغي قبول الوسائل التي تؤدي موضوعيا إلى النجاح. أو التخلي عن الخيرات التي تم إنتجاها. وكما أنه لا توجد سوى ضرورات افتراضية. فإن صيغ الأمر اختفت. وبشكل أدق. لم يعد هناك وجود لمن يعطي الأوامر على هواه، فالنظام الموضوعي للغة هو الذي يحكم المجتمع.

إن ما يميز هذه اللغة الجديدة عن اللغات السابقة. سواء تعلق الأمر بأكثرها قدما في العالم المعقول أو تلك التي ميزت الصراع من أجل السيادة. هو أن الصيغة الصرفية الوحيدة المعتمدة هنا. ليست "نحن" ولا "أنا" ولا "أنت"، وإنما صيغة ضمير الغائب، أو بالأحرى المحايد « on ». أكيد أن الأشكال أو الصيغ الأخرى ظلت متواجدة. لكن استخدامها يتم فقط عند التعبير عن العواطف و المعتقدات. أما الخطاب الجاد فلم يعد يعرف سوى معاينة الموضوع. وكل ما يتحدث عنه يتحول إلى موضوع. وهذا لا يقتصر فقط على الأشياء، بل يشمل كذلك الإنسان.

ب-العنف والخطاب. لا أحد يستطيع الدفاع عن العنف دون أن يقع في التناقض. فالمترافع يريد دائما إثبات أنه على حق. وهذا يعني أنه يملك العقل. وبذلك يكون قد دخل مجال الكلام و المناقشة. تاركا سلاحه عند الباب. إن من يتكلم ملزم أن يوافق مؤقتا على التعارض الشكلي بين اللغة والعنف، لكن ما أن نفصح عن هذا حتى نحس أن هذا التعارض الشكلي لا يستنفد الموضوع. بقدر ما يحصره ويحيطه بخيط رفيع من الفراغ. إن التعارض المقصود ليس تعارض لغة العنف، وإنما تعارض الخطاب والعنف. وبالضبط تعارض الخطاب المتماسك والعنف.

لكن كيف يدخل الخطاب المتماسك في مواجهة مع العنف؟ ما الذي يجعل الفرد يتمرد على الخطاب فيصبح عنيفا؟ أليس الإنسان عاقلا، بحيث يختار الخطاب المتماسك بإطلاق؟ يعتقد إريك فايل. أن الفرد.داخل هذا العالم. يمكن أن يتكلم بوصفه فردا. لكنه عندئذ لن يكون معقولا. ولن يكون كلامه متماسكا بإطلاق. إن كلام الفرد. حتى عندما يتخلص من كل تناقض صوري. فإنه يكون مجرد طرف ضمن أطراف متناقضة على مستوى الواقع المعطى، ولايمكن أن يفهم ككلام معقول إلا بإخضاعه للكوني. الذي يحتويه دون علم منه. فكل خطاب يمتلك معنى ما. ومن ثمة يساهم في في هذا المعنى. والحال أن هذا المعنى الجزئي لايظهر في حقيقته إلا حينما يدرج داخل المعنى المطلق وينظر إليه من زاوية المعرفة المطلقة. او الخطاب المتماسك بشكل تام.

المتماسك بإطلاق. ومن الضروري جدا لكي يصبح الخطاب. خطابا متماسكا بشكل مطلق. أن يكف عن كونه خطاب فرد. لأن مثل هذا الخطاب غير متناه بالتعريف. و المتناهي لا يستنفد اللامتناهي "ومن البديهي أن هذا الخطاب الذي يكشف الوجود الكلي داخل الحرية. هو ذاته يشكل آخرا و خارجا و إلزاما. بالنسبة للفرد. وإذا كان غير ذلك، فلن يوجد أبدا مشكل الخطاب ولا مشكل العنف: فهما لا يظهران إلا لأن الفرد ذاته ليس خطابا متماسكا بشكل مطلق. بل هو متناه وجزئي. إنه خليط من الخطاب و العنف"[27]

لقد وجد العنف بالنسبة للإنسان الذي لم يكن بعد قد وصل إلى المرحلة التي تحققت فيها الحرية المعقولة. وتمكن فيها الإنسان الكوني من معرفة ذاته بشكل كوني. وحقق إشباعه نهائيا ونال الرضا العقلي. غير أن هذا العنف أصبح الآن معترفا به كماهية للفرد بوصفه فردا. لكنها ليست ماهية الإنسان الذي تحرر من ضغط العنف. والذي لم يعد ذلك الإنسان الذي يزدري العنف أو يريد نسيانه بسبب الخوف أو الكسل والجبن. بل هو الذي تمكن من السيطرة عليه وتغييره. لقد أصبح كل عنف ملموس يمتلك معنى داخل العقل الذي انكشف بذاته.

إن النتيجة التي يصل إليها فايل بصدد هذه المواجهة بين الخطاب والعنف. تفيد أنه يمكن تجاوز التعارض بين الخطاب والعنف بواسطة الفهم. لكن هل يمكن فهم العنف ؟ يؤكد فايل :"أن التاريخ هو تحقق المعنى المطلق. وهو قد اكتمل لأنه أصبح مفهوما. أي لأن كل الخطابات الجزئية. حتى أقلها تماسكا حتى صرخة العنف. أصبحت مفهومة"[28]. وبالتالي فإن العنف لم يعد يستبعد من الخطاب. ولم يعد موضع تشنيع. بل لقد تم فهمه من حيث هو إيجاب وبوصفه النابض الذي بدونه لا تكون الحركة. فهو في كل مرحلة جزئية يكون مجرد سلب. لكنه في كليته هو إيجابية الكائن إذ يتعرف. بصفة معقولة. على ذاته كحرية.

هكذا يعود إريك فايل إلى فرضيته عن الإنسان. ككائن مفكر. كائن متكلم. ليؤكد أن الإنسان فعلا هو كذلك حتى عندما لا يتكلم. فهو يسلك عقليا. أي تبعا للخطاب. أو على الأقل تبعا لخطاب ما : لكن هل الخطاب هو كل شيء بالنسبة للإنسان ؟ هل يشكل الخطاب لوحده ما هو أساسي بالنسبة للإنسان؟

الخطاب أساسي بالنسبة للفلسفة. لأنها حتى حينما تعارض الخطاب، فهي تفعل بواسطة خطاب ما. لكن بمقدور الإنسان استبعاد الخطاب بكامل وعيه. بل يمكنه التخلي عن الخطاب وهو ممتلك له. غير أن التعارض لا يوجد بين الخطاب والخطاب فحسب. بل بين الخطاب والعنف أيضا. والإنسان يختار. واختياره حر. أي ليس له معنى وغير معقول. ولا يمكن بالضرورة رده إلى أي خطاب كان.

وبكل تأكيد يمكن أن يكون الإنسان كائنا عاقلا، أو على الأقل يمكنه أن يريد كونه عاقلا. غير أنها مجرد إمكانية لا ضرورة. إمكانية كائن يملك إمكانية أخرى هي العنف. غير أن هذه الإمكانية لا تظهر كإمكانية بالنسبة للإنسان الذي اختارها. فقط الفيلسوف. صاحب الخطاب هو الذي تظهر له كإمكانية. لأنه يتكلم من داخل الخطاب الذي ليس عنيفا. بل الخطاب الذي يميل إلى فهم ما هو أبعد من العنف. أما بالنسبة للإنسان العنيف : "فإن فكرة التماسك المطلق ووجود حقيقة كلية مكشوفة بكاملها. تفتقد كل معنى. فالإنسان العنيف لا يوجد كي يرى. بل هو يصارع أو يخضع. وإذ يصارع أو يخضع. يعبر عن ذاته. غير أنه لا يريد أبدا أن يدرك ما ينبغي السيطرة عليه أو الخضوع له في حقيقته الكلية. وهو لا يهتم بفهم أو إدراك ما، ولا بإمكانية ضمن إمكانيات أخرى. إنه حركة للنفي وسط ما ينفيه، ولا يمتلك أي خطاب متماسك ولا يسعى وراء التماسك. بل لا يسعى حتى وراء عدم التناقض"[29]

والحال أن الخطاب المتماسك لا ينطقه أحد ولا يملكه أحد، وإذا كان هناك من يدعي امتلاكه، فهو الشخص العنيف الذي يخادع تحت غطاء التظاهر بالخطاب المتماسك. وكلمة "الخداع " تشير إلى عالم الأقوال الزائفة التي تجعل من اللغة فعل العنف. إن التعارض بين الخطاب و العنف الذي كان بمثابة منطلق. يقودنا إلى الإفصاح عن العبارة التالية : " العنف يتكلم ". وهذا يعني أن ما يتكلم يقصد المعنى. لكن هذا لا يكشف لنا عما بين الخطاب و العنف من تشابك. إن اللسان – كما بين ذلك بول ريكور – بريء. اللسان أداة وشفرة. فهو لا يتكلم بل نتكلمه. و بالتالي فالمواجهة تنتقل من مواجهة بين الخطاب والعنف إلى مواجهة بين التعبير والمعنى.

ينبغي إذن اتخاذ مكان داخل دينامية اللغة للالتحاق بهذه المعركة لأجل المعنى وهو يتواجه مع تعبير العنف. فلابد أن يقوم أحد بالتعبير – الشعب – الطبقة- المجموعة- لكي يعبر العنف. ولابد كذلك من أن يخترق ذلك التعبير نية قول شيء معين. حتى يتعارض مقصد المعنى مع تعبير العنف. يوجد إذن مكان مضغوط في الكلام. وليس في اللسان. فيه يلتقي التعبير وإرادة المعنى. وفيه يتواجهان. وعند هذه النقطة إنما يتم تجاذب الكلام الناطق. وفي أقصى درجة، بين العنف والمعنى المعقول: "فاللغة بوصفها كلاما. وجدت هكذا بحيث تكون المكان الذي يبلغ فيه العنف درجة التعبير. وفي نفس الوقت يجد المعنى المعقول سنده داخل البحث عن المرجع الذي يحرك قولنا".[30]

يمكن إبراز هذا الترابط بين التعبير. الذي يعطي للعنف صوتا. وإرادة المعنى. التي تعطي للخطاب المتماسك صوتا. بالرجوع إلى الكلمات أو بعبارة أدق. إلى عمل التسمية و إطلاق الأسماء. وهو عمل لا ينتمي إلى اللسان ذاته، بل من إنتاج الكلام. والحال أن الكلمات تنتمي فعلا إلى نظام الكلام وبالتالي تخضع لنظام الجملة وليس إلى اللسان وتصنيفاته.[31] لكن ألا تعتبر الكلمات ساكنة. تقبع في هدوء داخل القواميس؟ في الحقيقة توجد فقط علامات معدة ومحصورة بعلامات أخرى داخل نفس النظام بواسطة شفرة موحدة. ولا تصبح تلك العلامات محملة بالتعبير ومحددة إلا إذا دخلت في جملة. وذلك عندما يتم استعمالها وتأخذ قيمة استعمالية. صحيح أن تلك العلامات تصعد من القاموس وتعود إليه بعد الاستعمال. لكنها لا تدل بخاصة إلا داخل الكيان المؤقت من الخطاب المسمى "الجملة ". فعندئذ فقط تدخل. بوصفها كلمات. حقل المواجهة بين العنف و الخطاب.[32]

ج. الحقيقة و العنف. الإنسان – كما يرى فايل – كائن متناه. يكد ويجد. يكرس حياته للعمل. منشغل ومهموم. لكنه غير متناه بحريته. فهو يتكلم ويملك عقلا. وبمقدوره بذل الجهد لفهم ذاته وفهم الآخرين. والبحث عن الحقيقة. يتعلق الأمر هنا بفهم كيف يتمكن الإنسان. عبر حرية الاختيار. من تحقيق تماسك الخطاب لأجل فهم كل الخطابات وكل الأنشطة والأفعال الإنسانية. وذلك لأن الخطاب لا يصدر عن الفرد ولا لأجل الفرد، بوصفه فردا. إن اختيار الخطاب لا يعني اختيار الذات، فاختيار الذات يتم عندما يمارس الفرد نشاطا او حينما يصمت، او عندما يعبر عن ذاته داخل لغة لا تحرص على التماسك، بل على العكس إن اختيار الخطاب هو اختيار للكوني، لأنه آنذاك يكون الفرد، بوصفه فردا، قد فهم بواسطة الخطاب، وليس الخطاب هو الذي فهم بواسطة الذات.

صحيح أن الفلسفة هي كلام الفرد المشخص، لكنه الفرد الذي قرر- داخل وضعية ملموسة- فهم وضعيته وفهم نمط الفهم الذي يفهم به هذه الوضعية:" فأنا هو الذي يعرف أنني لست حرا داخل هذا العالم، ويعرف أنه عالم يسوده العنف والأسى والجوع و القهر والموت العنيف. وأنا هو الذي يريد – فوق ذلك – التفكير في هذا العالم وفي وجودي أنا داخل هذا العالم قصد اكتشاف معناه، وبالتالي أنا الذي يريد تحقيق معنى العالم بواسطة الخطاب و العقل والنشاط العاقل.(...) أنا هو الذي أعرف ذاتي كائنا متناهيا، وأريد مع ذلك فهم المتناهي انطلاقا من اللامتناهي، أريد فهم ذاتي انطلاقا من الكوني".[33]

إن إرادة الفهم بواسطة الخطاب، أي إرادة فهم الكل، تقضي أن لا يتم فهم الذات داخل الإحساس الذاتي، أي باستبعاد العنف الخاص، واستحضار الفكر. وبذلك فالمتكلم لا يستعمل لغته الذاتية، بل يستعمل لغة الجميع. إن الذات التي تعلن ذاتها عبر الضمائر الذاتية(Pronoms possessifs) ليست سوى العنف، لكنه عنف تجاوز ذاته وأصبح عنفا متكلما، هو يتكلم من وجهة نظر كونية، أي العنف وقد تم القبض على حقيقته وفهمها من وجهة نظر الخطاب ذاته الذي يعين بواسطة عقلي الخطاب الجزئي الخاص داخل الوسيط العام، الذي هو الخطاب الكوني: فالكوني يسبق الفردي.

إن الفلسفة كبحث عن الحقيقة تسير دائما في الاتجاه اللانهائي للحقيقة[34]،التي لا تدرك أبدا، ولكن تحضر شيئا فشيئا، داخل معرفة هي بمثابة تأمل ونزوع إلى الحكمة، دون انفصال عن العمل. إنها خطاب يتعلق بالخير والشر، بالغاية وبمعنى الوجود الإنساني، خطاب يعلم كل إنسان كيف يتخذ القرار إذا أراد أن يكون عاقلا، والأهداف التي يتعين اتباعها. وكيف ينبغي تنظيم المجتمع لتحقيق حياة معقولة وذات معنى. فالموضوع الخاص بالخطاب الفلسفي هو كلية معقولة بواسطة مفاهيم، لكن لا يمكنها أبدا أن تكون معطى مباشرا، كواقعة من الوقائع. إن الفلسفة لا تجعلنا نعرف الموجودات بل تجعلنا نفهمها.

يتحقق الفهم بواسطة التفلسف، الذي هو تأمل في الإنسان الموجود في العالم، الإنسان المنخرط في موقف، والذي يريد بدوره فهم هذا الموقف والسيطرة عليه. والفيلسوف بدون النظام الاجتماعي لا يستطيع أن"يتفلسف" لأنه سيكون فريسة للعنف. و التفلسف، كما يؤكد فايل، هو معرفة مختلف المواقف التي يستطيع الإنسان أن يتخذها بالفعل، خلال حياته الوجودية. والموقف الخالص، الذي يعرف نفسه بنفسه، هو "مقولة"، بالمعنى السليم و الواضح، والمقولة هي الشيء الذي يوضح ويحدد الموقف في خطاب متماسك. وهذا يعني أن المواقف، تكون في الواقع. غير خالصة وغير نقية. أي مختلطة، وهي هنا وبهذا ذات أعداد لانهائية وغير محددة، لكن في الإمكان تقسيمها وتنقيتها، وإن صح القول، تخليصها بعضها من بعض، من حيث "خصوصيتها".

إن المواقف هي التي تنتج المقولات، وكلاهما، أي المواقف والمقولات. يسمح بفهم الإنسان، وتمكن هذا الأخير من فهم ذاته. وكما يقول فايل إنه "انطلاقا من المقولات تنفتح كل المواقف على الفهم"[35]. ومواقف الإنسان داخل تاريخه هي التي تنشئ المقولات. ومنها مقولة " الحقيقة"، التي يعتبرها إريك فايل أول المقولات، باعتبار الفلسفة هي" بحث عن الحقيقة وليست سوى البحث عن الحقيقة"[36]. والحال أن"الحقيقة" تليها مقولة اللا-معنى، وهي بدورها مقولة كونية وفارغة، بحيث تبدو "الحقيقة هي اللا-معنى"، أي أن ما يظهر هو غير الحقيقة.

مواقف الإنسان انن داخل تاريخه هي التي تنشئ مقولات خطابه، ذلك أن الإنسان يتكلم بوصفه عنفا داخل العنف، ومتعارضا مع العنف داخل خطابه، أو جاعلا من ذاته عنفا بمساعدة الخطاب. هكذا يكون منطق الفلسفة هو تتالي خطابات الإنسان المتماسكة، وهو تتال وجهته معطاة، بالنسبة لنا، بواسطة فكرة الخطاب المتماسك، الذي يدرك ذاته بذاته. ويصبح من السهل التأكيد، لا فقط على وحدة الفلسفة وتاريخ الفلسفة، بل أيضا على وحدة التاريخ و الفلسفة.

ينبغي هنا إنهاء هذه المواجهة بين العنف و اللغة، بالتأكيد على ملاحظتين، هما بمثابة نتيجة وتركيب لما سبق:

الأولى: تخص حرية الاختيار، فالإنسان يتميز بأنه حرية إما من أجل العقل أو من أجل العنف، ومن هنا مسؤوليته الأخلاقية في هذا الاختيار والفلسفة بدورها تنتج من اختيار، وبمعنى معين، من اختيار مضاد للطبيعة. فالحالة الطبيعية للبشر هي الحرب، والإنسان هو الكائن الذي يقدر على رفض هذه الطبيعة في نفسه وإنكارها، والوسيلة التي يتخلص بها من العنف هي الكلام و النقاش والحوار. إن قدر البشرية هو أن تختار بين طرفين : إما البقاء وسط الطبيعة، أي البقاء في حالة الحيوانية، أو الوقوف موقف المعارضة، ورفض العنف و التكلم، أي أن يصبح الإنسان فيلسوفا.

الثانية: هي ضرورة الخطاب، ذلك ان العنف يصبح متجاوزا عندما يتكلم. لأنه يتكلم عندئذ من وجهة نظر كونية. و الكوني يسبق الفردي ويحدده. والفلسفة هي تشييد "خطاب متماسك"، هدفه الحكمة الكبرى، التي نراها فوق كل "خطاب" أو بالأحرى هي "وحدة الخطاب " مع الموقف الذي يسمح للإنسان أن يعيش خطابه ويحقق وجوده. صحيح أنه لا يوجد خطاب واحد، بل توجد "خطابات " كثيرة، لكن في وسعنا –بواسطة الخطاب الفلسفي- أن نضمن أساسا مشتركا لمختلف الخطابات الخاصة : خطاب يقودنا، فيعطي معنى لعملنا وانتصارنا وحياتنا، فلا نسقط فريسة يأس العنف وعنف اليأس. إن هذا ما يسعى إلى تبيانه" منطق الفلسفة"، الذي يقيم ذاته كفلسفة أولى هي أساس كل فلسفة لاحقة.

III. مستقبل الفلسفة.

في الواقع أي حديث عن مستقبل الفلسفة، سيبدو كأنه حديث عن مستقبل العنف، او بالأحرى عن مستقبل المواجهة المستمرة بين الفلسفة والعنف. والحال أن السؤال عن مستقبل الفلسفة هو في حقيقته سؤال عن وضعية معينة، ومستقبل يتعلق بحاضر خاص. أي أنه سؤال حول الراهن. ومن هنا يبدو هذا السؤال غير مريح. لأنه توجد دوما إمكانية رفض المعنى. وعدم تقبل الجواب. والتشبت بالعبث واللامعقول. أي اختيار العنف المحض , واللا-معنى، وهو اختيار ضد الفلسفة وضد كل أشكال العقل.

السؤال عن مستقبل الفلسفة هو كذلك سؤال عن مستقبل العنف بالفعل. لأن اختيار الفلسفة هو محاولة لفهم العنف وإخضاعه للعقل والأسباب. والفرق بين إرادة العنف إرادة التفلسف، يقوم فقط في كون الفيلسوف يستطيع –كما بينا من قبل – فهم من هو عنيف. في حين أن الشخص العنيف لا يفهم الفيلسوف، ولا يمكنه ذلك، لأنه مبدئيا يرفض الفهم. ومن هنا ندرك لماذا يستمر الخطاب الفلسفي. رغم الاضطهاد أو القمع الذي يتعرض له الفيلسوف.

إن هذا السؤال: أي مستقبل للفلسفة في مواجهتها للعنف ؟ يجبرنا على مواجهة سؤال آخر : من يرفض الفلسفة ؟ وهو بدوره سؤال مؤقت. لأن البحث لدى من يرفضون الفلسفة أو يشكون فيها، يعيدنا إلى مهمة (وماهية) الفلسفة في الوقت الحاضر. أي في حاضر قد تخرس فيه الفلسفة ولا يتكلم سوى العنف. من هنا السؤال الجوهري الذي يطرحه إريك فايل[37]: ما عساه سيكون مستقبل الفلسفة والفلاسفة؟
hager el fezazi
hager el fezazi

عدد المساهمات : 102
تاريخ التسجيل : 06/12/2009

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى