منتدى الفلسفة ـ المدرسة العليا للأساتذة - فــــــــاس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

درس الحقيقة

اذهب الى الأسفل

درس   الحقيقة Empty درس الحقيقة

مُساهمة  hager el fezazi الخميس مارس 18, 2010 2:07 pm

الغاية من كل معرفة ، سواء كانت عامية أو علمية ، هو البحث عن الحقيقة . فعامة الناس يدَّعُون امتلاكها ، ويُطابقون بينها وبين الرأي ، معتبرين أن آراءهم حقائق ؛ على حين أن العلماء يسعون باستمرار لبلوغها دون الادعاء بامتلاكها . وإذا كان العلماء يفكرون ، كل في مجاله الخاص ، عن حقيقة موضوع تخصصه ؛ فإن الفلاسفة يبحثون عن الحقيقة الكلية . فما الحقيقة ؟ و ما الطريق إليها : الرأي أم العلم ؟ و هل الرأي حقيقة ؟ وهل بإمكان الرأي أن يقدم الحقيقة ؟ و هل الحقيقة استمرار للرأي أم قطيعة معه ؟ و لمعرفة الحقيقة هل ينبغي أن نرتكز على الرأي أم نتخلص منه؟ وهل هي ثابتة أم متغيرة ؟ وهل هي جاهزة أم يتم بناؤها؟ و ما معيار تمييزها عن أضدادها ؟ و أين تكمن قيمتها ؟





1) الرأي و الحقيقة :




ليست الحقيقة شيء في الواقع ، الواقع هو مجموع الأشياء ، والأشياء قد توصف بأنها موجودة أو غير موجودة ، لكنها لا توصف بأنها حقيقة أو خطأ . إذا فأين توجد الحقيقة ؟ و ماذا تكون ؟ لا توجد الحقيقة إلا في العقل على شكل أفكار ، إنها ما يفكر فيه العقل و تعبر عنه اللغة . يقول أستاذ الرياضيات بجامعة فيكتوريا جون ما كليش john McLeish : ‘‘ إن الحقيقة ليست مكونة من أشياء ، إنها ليست سوى أفكارا . و في الواقع فإن الأفكار وحدها هي الحقيقة .’’ . وإذا كانت الحقيقة توجد في العقل فهل كل ما يوجد في العقل حقيقة ؟ و متى تكون الفكرة حقيقة ؟ الحقيقة هي كل نتيجة ثبتت صحتها بالبرهان و تأكد صدقها بالتجربة . وعليه فما ثبت بالبرهان هو حقيقة صورية ، و ما تأكد بالتجربة فهو حقيقة مادية . وإذا كان الناس يبحثون عن الحقيقة فلهم آراء . و الرأي وجهة نظر شخصية تتضمن حكما ذاتيا متسرعا عن الأشياء تمليه الحاجات و الأهواء و الميول . هذا عن الرأي الشخصي ، أما الرأي العام فيدل على مجموع التمثلات و الأحكام التي يتداولها الناس في حياتهم اليومية حول أشياء و قضايا تخصهم يعتقدون أنها حقائق . وعلى العموم فالرأي تمثل أو انطباع يستميت الناس في التشبث به و يرفضون مراجعته ، بل و قد يرفضون في ضوئه ما جَدَّ في مجال العلوم .

يذهب الفيلسوف الفرنسي بسكال blaise PASCAL (1623-1662) في نقده للاتجاهات العقلانية إلى التأكيد أن العقل ليس بإمكانه احتكار الحقيقة مادام أن ثمة حقائق تتجاوز قدراته ، ولا يمكنه البرهنة عليها ، لأنها حقائق قلبية يشترك فيها كل الناس و يعلمونها بتلقائية ، وتمثل قاعدة كل المعارف الممكن اكتسابها لديهم، ويتماثل هذا النوع من الحقائق مع الآراء .

فالآراء قد تتحكم في العقول و تحجبها عن الانفتاح على الحقيقة . ولقد نَظَّرَ بعض الفلاسفة لهذا الموقف مؤكدين أن الآراء حقائق ، و أن العلوم ليست إلا استمرارا للآراء . ومنهم الفيلسوف البولوني إميل مايرسون Emile MEYRSON(1859_1933) الذي بين أن العلم ، مهما تكن درجة دقته ، إن هو إلا استمرار و امتداد للمعرفة العامية ؛ و أن الفرق بينهما في الدرجة لا في الطبيعة . و هو الأمر الذي بينه أيضا العالم الفيزيائي الألماني ماكس بلانك max planck (1858-1947) والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1918 بقوله : " إن المنطق العلمي ليس في وسعه أن يستنبط من مقدمات معطاة شيئا مغايرا لما يستطيع منطق الحس المشترك العادي أن يستنبطه ." إن المعرفة بالحقيقة تبدأ من الرأي ، فهو أساسها الذي تشيد عليه . و عليه يكون الرأي حقيقة أولية .

إذا فإذا كان العامة و معهم جماعة من الفلاسفة يعتقدون أن الرأي حقيقة ، فإن جماعة أخرى من الفلاسفة و العلماء أكدوا أن العلم عَمِل على تعرية هذه القناعة و الإطاحة بها . يقول الأنتروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروسLévy STRAUSS (1908-2008) : " لا بد من أن ندير ظهورنا إلى كل ما هو معاش من أجل الوصول إلى فهم الواقع ." . إن تاريخ العلم أبان على الدوام خطأ الرأي . و لذلك فإن العلم ، كما يقول فيلسوف العلم الفرنسي غاستون باشلار BACHELARD (1884-1962) ، يعارض الرأي من حيث المبدأ و الموضوع و المنهج و النتائج . فالرأي على خطإ دائما ، لأنه لا يفكر البتة لأنه لا ينظر إلى الأشياء لمعرفة حقيقتها ، وإنما لحاجته إليها ومصلحته فيها و التمتع بها . ولأنه لا يفكر فإنه لا يعرف . يقول باشلار : " إن الرأي يترجم الحاجات إلي معارف ". و لذلك لا يمكن تأسيس معرفة علمية عليه بل يجب هدمه والتخلص منه ، لأنه عائق لسيرورة المعرفة العلمية لا يجعل الأشياء مشكلة يتساءل عنها و يفكر فيها بل موضوع إشباع الحاجات و الميول و الرغبات . إذا فالبحث عن الحقيقة من اختصاص العلوم لأنها معرفة تساؤلية تعرف كيف تطرح وتتناول المشاكل . لذلك فالحقيقة ليست معطاة و لا جاهزة ، و إنما هي بناء .

هل معنى هذا أن ليس للعلماء آراء ؟ إن العلم يرفض تبني رأي قبلي سابق على المعرفة بحقائق الأشياء ، لكنه يقبل بتأسيس رأي بعدي على المعرفة بحقائق الأشياء .

2) معايير الحقيقة

ليس كل ما نعرفه حقيقة ، فبعض ما نعرفه حقيقة و بعض ما نعرفه ليس حقيقة . فالحقيقة و اللاحقيقة مختلطتان ، و لذلك لا توجد حقيقة خالصة ، مطلقة و كاملة . لهذا تساءل الفلاسفة و العلماء عن معايير تمييز الحقيقة عن أضدادها ، لكنهم لم يتفقوا على معيار واحد ، فما هي هذه المعايير ؟

_ المعيار الذاتي الداخلي : يذهب اسبينوزا SPINOZA(1632-1677) إلى القول أن الحقيقة معيار ذاتها ، لا تحتاج إلى دليل منطقي يثبتها و لا إلى تجربة تؤكدها أي لا تحتاج إلى معيار خارجي . فالحقيقة إذا فكرةٌ أولية صحيحة ، لا يشك في صحتها واضحة بذاتها يقينية ، كاملة ثابتة و ضرورية . لا تحتاج لدليل بل هي الدليل على كل شيء ، يحتاجها العقل في براهينه ، و يتأسس عليها العلم في بحثه . و ليست الحقيقة نتيجة بل فكرة أولية ، لا ينتهي إليها العقل بل إنها ما يُفرض عليه وأن ما يستخلص منها بالاستنباط فهو نتائج يقينية لا حقائق . و يشبه اسبينوزا الحقيقة بالنور الذي يضيء الأشياء و لا يحتاج لشيء يضيئه ، إنه دليل على ذاته و على غيره ، كذلك الحقيقة دليل على ذاتها و دليل على غيرها .

_ المعيار المنطقي العقلي : يرى الفيلسوف الفرنسي ديكارت René DESCARTES (1596- 1650) أن معيار الحقيقة عقلي . فالعقل أعدل قسمة بين الناس ، و الحقيقة لا توجد إلا في العقل وحده ، فهو مصدر الحقيقة و معيارها ، و على الإنسان أن يُحْسِن و يُحْكِم استخدام العقل لتكون منطلقاته و نتائجه يقينية . و يميز ديكارت بين نوعين من الحقيقة ، حقيقة تعلم بالحدس و هي البداهات ، وحقيقة تعلم بالاستنباط و هي النتائج المنطقية . والحدس نور عقلي لإدراك لحقائق البديهية مباشرة و على الفور . فالحدس و الاستنباط إذا عمليتان عقليتان بهما نميز بين الحقيقة و اللاحقيقة . و ما لا يعلم بالحدس أو الاستنباط ليس حقيقة . يقول ديكارت : " إننا نعرف الحقيقة حينا بالحدس ، و حينا بالاستنباط ." و يشترط ديكارت للحصول على اليقين الذي لا يخالطه شك احترام العقل لأربعة قواعد منهجية هي : البداهة – التحليل – التركيب – المراجعة .

_ المعيار التجريبي الواقعي : تعتبر الفلسفة التجريبية أن ليس في العقل إلا ما تمدنا به التجربة من الواقع . و عليه فالحقيقة هي الفكرة الصادقة التي تؤكد التجربة مطابقتها مع الواقع ، تستنسخه و تكون صورة أمينة له . فمعيار الحقيقة هو تطابق الفكرة مع الواقع تجريبيا .

_ معيار المنفعة : وهو المعيار الذي تقول به الفلسفة البرجماتية . و البرجماتية فلسفة أمريكية ، ظهرت في نهاية القرن 19 . تعتبر هذه الفلسفة الحقيقة كل فكرة عملية قابلة للتطبيق في الواقع و تؤدي إلى النجاح و تحقيق المصالح و المنافع الخاصة ؛ إنها خطة ثمينة لانجاز عمل ناجح نافع و مفيد ، وهذا ما يجعل الحقيقة وسيلة أو أداة . وعليه فإن الفكرة ليست حقيقة في ذاتها ، بل في كونها وسيلة . و لذلك لم تعد الحقيقة هي ما نفكر فيه بل هي ما نعمله بنجاح لفائدة حياتنا من ازدهار و رفاهية ، أي أنها ليس صورة للواقع بل أداة للفعل و التأثير فيه لتحقيق نتائج مُرْضية ؛ إنها ما يتطابق مع المنفعة لا مع الفكر و الواقع . فما ينفعني حقيقة و ما يضرني ليس حقيقة . وعليه فما ينفعني يضر غيري ، و ربما أن ما ينفعني في ظروف يضرني في ظروف أخرى . و لذلك تكون الفكرة الواحدة في نفس الوقت حقيقة و لاحقيقة ، تختلف باختلاف الظروف و الأشخاص . الحقيقة بهذا المعنى لا تكون فكرة مطلقة ، كما أنها تفقد قيمتها العقلية و الأخلاقية .

3) قيمة الحقيقة :

وكما اختلف الفلاسفة حول معايير الحقيقة ، فإنهم اختلفوا أيضا حول قيمتها ، فأين تكمن قيمتها أي أين يتجلى دورها الفعلي وأهميتها العملية ؟ و لماذا هي مطلوبة ؟

_ القيمة العقلية و الأخلاقية : يرى كانط أن الحقيقة غاية الجميع ، فهي مطلوبة عقليا و منشودة أخلاقيا . إنها ما يجب أن يعلمه المرء و يعمل به . فالبحث عنها وقَوْلُها واجب أخلاقي ، فلا أحد يبحث عن الخطإ من أجل الخطإ . و الكذب ليس قيمة حتى يكون هدف الإنسانية و غاية البحث العلمي . و قد يؤدي الكذب إلى مصلحة فردية و يعود على الشخص بالنفع ، لكنه لن يكون قيمة عقلية و هدفا إنسانيا . هذا ما يجعل الحقيقةَ فضيلةً والبحث عنها و قولها واجب مطلق لا يجوز عقليا و أخلاقيا التكتم عليها و إخفاؤها و إلا ساد الكذب و انتشر التضليل وتم الترويج للمغالطات . فقيمة الحقيقة في الارتقاء بالقدرات العقلية و استقامة السلوك.

_ القيمة التحريرية : يرى الفيلسوف هيدجر أن الإنسان التاريخي في حياته اليومية المشتركة مُكْرهٌ على التصرف كما يتصرف الناس ، فيجد نفسه تائها عن ذاته و عن حقيقة الواقع ، مشغولا بحاجياته عن ذاته و واقعه و بمشاكل الحياة الجزئية اليومية التي لا تترك له الفرصة للتفكير في سِرِّ وجوده و وجود العالم . وأنه وهو يبحث عن الحقيقة يجد نفسه مُقيما في التيه أي اللاحقيقة ، إنه يبحث عن الحقيقة وسط التيه ، يجد نفسه تائها عن ذاته، ناسيا لها و ضائعا عنها . يقول هيدجر : " التيه هو الميدان المفتوح للغلط و أساسه . " . ونحن في التيه مبعدون عن الحقيقة ، عن سر وجودنا . إن الحقيقة توجد في تضاد مع التيه ، لن تُرفع عنها الحُجُب إلا بمقاومة التيه ، و العمل على التحرر منه بالعودة إلى الذات لبناء هويته و يحقق قيمته و يمارس حريته . و لذلك يعرف هيدجر الحقيقة بأنها الحرية . فقيمة الحقيقة في تخليص الإنسان من التيهان . و لا يمكن التخلص من التيه إلى الأبد ، لأنه سيرورة دائمة لا تتوقف . فقيمة الحقيقة في أن تكون فكرة نستعيد بها ذواتنا و تنقدنا من الضياع.

_ القيمة السياسية : أما الفيلسوف الألماني إريك فايل Eric WEIL(1904-1977) فيبين أن آخَرَ( مقابل) الحقيقة ليس هو الخطأ ، لأن الخطأ من نفس جنس الحقيقة ؛ إنه معرفي مثلما أن الحقيقة معرفية . لذلك فليست الحقيقة كما يقال سوى أخطاء يتم تصحيحها . و الإنسان وهو يبحث عن الحقيقة يقع في الخطإ ، و هو إذ يصحح الخطأ يسير نحو الحقيقة . إذا فآخر الحقيقة ( أي ما ليس حقيقة) إنما هو العنف . و العنف هو كل فعل (عضلي أو رمزي ) يُسبب أذى أو ضررا جسديا كان أو نفسيا . وليس العنف معرفة ، وليس هو من جنس الحقيقة . و تتعدد أشكال العنف ، وقد يتخذ صورا متنوعة . و قد يمارس العنف بالخطاب ( اللغة ) من قبل سلطة لتمارس هيمنتها و استبدادها ، و بذلك تفرض واقعا غير معقول . و عليه لا يكون الخطاب إلا تأسيسا للعنف و متطابقا معه ، و متناقضا مع العقل . وتكمن قيمة الحقيقة في التصدي للعنف لا بالعنف و إنما بالخطاب المعقول الذي يساير العقل لا ذلك الذي يبرر الواقع الذي تفرضه سلطة مُسْتَبِدة ن سلوك الإنسا. و بذلك لا تكون الحقيقة هي التطابق مع الواقع و إنما هي تطابق الإنسان مع العقل بحيث يكو ن مؤسسا على مبادئ العقل لا مسايرا لمقتضيات الواقع الذي تفرضه سياسة سلطة . وعليه فقيمة الحقيقة في دورها السياسي لمواجهة كل أشكال العنف .

خلاصة : تتعدد معاني الحقيقة و تتنوع معايير تمييزها و قيمها ؛ فتعدد أوجهها دليل على طابعها الإشكالي ، و دليل على أن ليس ثمة خطاب واحد يمتلكها أو يمثلها في مختلف أبعادها و وُجُوهِها . وعليه لا ينبغي النظر إلى مختلف المواقف أنها تصورات متناقضة معادية لبعضها بل تدل على نسبيتها ، و أن كل واحدة تمثلها من زاوية معينة وفي حقبة محددة لا في شموليتها و إطلاقها . إذا فكل فلسفة أو علم أو نظرية إن هي إلا تعبير نسبي مؤقت للحقيقة أو لحظة في سيرورة البحث عنها دون أن تكون الكلمة الفصل أو النهائية .
hager el fezazi
hager el fezazi

عدد المساهمات : 102
تاريخ التسجيل : 06/12/2009

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى