درس الحقيقة
صفحة 1 من اصل 1
درس الحقيقة
الغاية من كل معرفة ، سواء كانت عامية أو علمية ، هو البحث عن الحقيقة . فعامة الناس يدَّعُون امتلاكها ، ويُطابقون بينها وبين الرأي ، معتبرين أن آراءهم حقائق ؛ على حين أن العلماء يسعون باستمرار لبلوغها دون الادعاء بامتلاكها . وإذا كان العلماء يفكرون ، كل في مجاله الخاص ، عن حقيقة موضوع تخصصه ؛ فإن الفلاسفة يبحثون عن الحقيقة الكلية . فما الحقيقة ؟ و ما الطريق إليها : الرأي أم العلم ؟ و هل الرأي حقيقة ؟ وهل بإمكان الرأي أن يقدم الحقيقة ؟ و هل الحقيقة استمرار للرأي أم قطيعة معه ؟ و لمعرفة الحقيقة هل ينبغي أن نرتكز على الرأي أم نتخلص منه؟ وهل هي ثابتة أم متغيرة ؟ وهل هي جاهزة أم يتم بناؤها؟ و ما معيار تمييزها عن أضدادها ؟ و أين تكمن قيمتها ؟
1) الرأي و الحقيقة :
ليست الحقيقة شيء في الواقع ، الواقع هو مجموع الأشياء ، والأشياء قد توصف بأنها موجودة أو غير موجودة ، لكنها لا توصف بأنها حقيقة أو خطأ . إذا فأين توجد الحقيقة ؟ و ماذا تكون ؟ لا توجد الحقيقة إلا في العقل على شكل أفكار ، إنها ما يفكر فيه العقل و تعبر عنه اللغة . يقول أستاذ الرياضيات بجامعة فيكتوريا جون ما كليش john McLeish : ‘‘ إن الحقيقة ليست مكونة من أشياء ، إنها ليست سوى أفكارا . و في الواقع فإن الأفكار وحدها هي الحقيقة .’’ . وإذا كانت الحقيقة توجد في العقل فهل كل ما يوجد في العقل حقيقة ؟ و متى تكون الفكرة حقيقة ؟ الحقيقة هي كل نتيجة ثبتت صحتها بالبرهان و تأكد صدقها بالتجربة . وعليه فما ثبت بالبرهان هو حقيقة صورية ، و ما تأكد بالتجربة فهو حقيقة مادية . وإذا كان الناس يبحثون عن الحقيقة فلهم آراء . و الرأي وجهة نظر شخصية تتضمن حكما ذاتيا متسرعا عن الأشياء تمليه الحاجات و الأهواء و الميول . هذا عن الرأي الشخصي ، أما الرأي العام فيدل على مجموع التمثلات و الأحكام التي يتداولها الناس في حياتهم اليومية حول أشياء و قضايا تخصهم يعتقدون أنها حقائق . وعلى العموم فالرأي تمثل أو انطباع يستميت الناس في التشبث به و يرفضون مراجعته ، بل و قد يرفضون في ضوئه ما جَدَّ في مجال العلوم .
يذهب الفيلسوف الفرنسي بسكال blaise PASCAL (1623-1662) في نقده للاتجاهات العقلانية إلى التأكيد أن العقل ليس بإمكانه احتكار الحقيقة مادام أن ثمة حقائق تتجاوز قدراته ، ولا يمكنه البرهنة عليها ، لأنها حقائق قلبية يشترك فيها كل الناس و يعلمونها بتلقائية ، وتمثل قاعدة كل المعارف الممكن اكتسابها لديهم، ويتماثل هذا النوع من الحقائق مع الآراء .
فالآراء قد تتحكم في العقول و تحجبها عن الانفتاح على الحقيقة . ولقد نَظَّرَ بعض الفلاسفة لهذا الموقف مؤكدين أن الآراء حقائق ، و أن العلوم ليست إلا استمرارا للآراء . ومنهم الفيلسوف البولوني إميل مايرسون Emile MEYRSON(1859_1933) الذي بين أن العلم ، مهما تكن درجة دقته ، إن هو إلا استمرار و امتداد للمعرفة العامية ؛ و أن الفرق بينهما في الدرجة لا في الطبيعة . و هو الأمر الذي بينه أيضا العالم الفيزيائي الألماني ماكس بلانك max planck (1858-1947) والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1918 بقوله : " إن المنطق العلمي ليس في وسعه أن يستنبط من مقدمات معطاة شيئا مغايرا لما يستطيع منطق الحس المشترك العادي أن يستنبطه ." إن المعرفة بالحقيقة تبدأ من الرأي ، فهو أساسها الذي تشيد عليه . و عليه يكون الرأي حقيقة أولية .
إذا فإذا كان العامة و معهم جماعة من الفلاسفة يعتقدون أن الرأي حقيقة ، فإن جماعة أخرى من الفلاسفة و العلماء أكدوا أن العلم عَمِل على تعرية هذه القناعة و الإطاحة بها . يقول الأنتروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروسLévy STRAUSS (1908-2008) : " لا بد من أن ندير ظهورنا إلى كل ما هو معاش من أجل الوصول إلى فهم الواقع ." . إن تاريخ العلم أبان على الدوام خطأ الرأي . و لذلك فإن العلم ، كما يقول فيلسوف العلم الفرنسي غاستون باشلار BACHELARD (1884-1962) ، يعارض الرأي من حيث المبدأ و الموضوع و المنهج و النتائج . فالرأي على خطإ دائما ، لأنه لا يفكر البتة لأنه لا ينظر إلى الأشياء لمعرفة حقيقتها ، وإنما لحاجته إليها ومصلحته فيها و التمتع بها . ولأنه لا يفكر فإنه لا يعرف . يقول باشلار : " إن الرأي يترجم الحاجات إلي معارف ". و لذلك لا يمكن تأسيس معرفة علمية عليه بل يجب هدمه والتخلص منه ، لأنه عائق لسيرورة المعرفة العلمية لا يجعل الأشياء مشكلة يتساءل عنها و يفكر فيها بل موضوع إشباع الحاجات و الميول و الرغبات . إذا فالبحث عن الحقيقة من اختصاص العلوم لأنها معرفة تساؤلية تعرف كيف تطرح وتتناول المشاكل . لذلك فالحقيقة ليست معطاة و لا جاهزة ، و إنما هي بناء .
هل معنى هذا أن ليس للعلماء آراء ؟ إن العلم يرفض تبني رأي قبلي سابق على المعرفة بحقائق الأشياء ، لكنه يقبل بتأسيس رأي بعدي على المعرفة بحقائق الأشياء .
2) معايير الحقيقة
ليس كل ما نعرفه حقيقة ، فبعض ما نعرفه حقيقة و بعض ما نعرفه ليس حقيقة . فالحقيقة و اللاحقيقة مختلطتان ، و لذلك لا توجد حقيقة خالصة ، مطلقة و كاملة . لهذا تساءل الفلاسفة و العلماء عن معايير تمييز الحقيقة عن أضدادها ، لكنهم لم يتفقوا على معيار واحد ، فما هي هذه المعايير ؟
_ المعيار الذاتي الداخلي : يذهب اسبينوزا SPINOZA(1632-1677) إلى القول أن الحقيقة معيار ذاتها ، لا تحتاج إلى دليل منطقي يثبتها و لا إلى تجربة تؤكدها أي لا تحتاج إلى معيار خارجي . فالحقيقة إذا فكرةٌ أولية صحيحة ، لا يشك في صحتها واضحة بذاتها يقينية ، كاملة ثابتة و ضرورية . لا تحتاج لدليل بل هي الدليل على كل شيء ، يحتاجها العقل في براهينه ، و يتأسس عليها العلم في بحثه . و ليست الحقيقة نتيجة بل فكرة أولية ، لا ينتهي إليها العقل بل إنها ما يُفرض عليه وأن ما يستخلص منها بالاستنباط فهو نتائج يقينية لا حقائق . و يشبه اسبينوزا الحقيقة بالنور الذي يضيء الأشياء و لا يحتاج لشيء يضيئه ، إنه دليل على ذاته و على غيره ، كذلك الحقيقة دليل على ذاتها و دليل على غيرها .
_ المعيار المنطقي العقلي : يرى الفيلسوف الفرنسي ديكارت René DESCARTES (1596- 1650) أن معيار الحقيقة عقلي . فالعقل أعدل قسمة بين الناس ، و الحقيقة لا توجد إلا في العقل وحده ، فهو مصدر الحقيقة و معيارها ، و على الإنسان أن يُحْسِن و يُحْكِم استخدام العقل لتكون منطلقاته و نتائجه يقينية . و يميز ديكارت بين نوعين من الحقيقة ، حقيقة تعلم بالحدس و هي البداهات ، وحقيقة تعلم بالاستنباط و هي النتائج المنطقية . والحدس نور عقلي لإدراك لحقائق البديهية مباشرة و على الفور . فالحدس و الاستنباط إذا عمليتان عقليتان بهما نميز بين الحقيقة و اللاحقيقة . و ما لا يعلم بالحدس أو الاستنباط ليس حقيقة . يقول ديكارت : " إننا نعرف الحقيقة حينا بالحدس ، و حينا بالاستنباط ." و يشترط ديكارت للحصول على اليقين الذي لا يخالطه شك احترام العقل لأربعة قواعد منهجية هي : البداهة – التحليل – التركيب – المراجعة .
_ المعيار التجريبي الواقعي : تعتبر الفلسفة التجريبية أن ليس في العقل إلا ما تمدنا به التجربة من الواقع . و عليه فالحقيقة هي الفكرة الصادقة التي تؤكد التجربة مطابقتها مع الواقع ، تستنسخه و تكون صورة أمينة له . فمعيار الحقيقة هو تطابق الفكرة مع الواقع تجريبيا .
_ معيار المنفعة : وهو المعيار الذي تقول به الفلسفة البرجماتية . و البرجماتية فلسفة أمريكية ، ظهرت في نهاية القرن 19 . تعتبر هذه الفلسفة الحقيقة كل فكرة عملية قابلة للتطبيق في الواقع و تؤدي إلى النجاح و تحقيق المصالح و المنافع الخاصة ؛ إنها خطة ثمينة لانجاز عمل ناجح نافع و مفيد ، وهذا ما يجعل الحقيقة وسيلة أو أداة . وعليه فإن الفكرة ليست حقيقة في ذاتها ، بل في كونها وسيلة . و لذلك لم تعد الحقيقة هي ما نفكر فيه بل هي ما نعمله بنجاح لفائدة حياتنا من ازدهار و رفاهية ، أي أنها ليس صورة للواقع بل أداة للفعل و التأثير فيه لتحقيق نتائج مُرْضية ؛ إنها ما يتطابق مع المنفعة لا مع الفكر و الواقع . فما ينفعني حقيقة و ما يضرني ليس حقيقة . وعليه فما ينفعني يضر غيري ، و ربما أن ما ينفعني في ظروف يضرني في ظروف أخرى . و لذلك تكون الفكرة الواحدة في نفس الوقت حقيقة و لاحقيقة ، تختلف باختلاف الظروف و الأشخاص . الحقيقة بهذا المعنى لا تكون فكرة مطلقة ، كما أنها تفقد قيمتها العقلية و الأخلاقية .
3) قيمة الحقيقة :
وكما اختلف الفلاسفة حول معايير الحقيقة ، فإنهم اختلفوا أيضا حول قيمتها ، فأين تكمن قيمتها أي أين يتجلى دورها الفعلي وأهميتها العملية ؟ و لماذا هي مطلوبة ؟
_ القيمة العقلية و الأخلاقية : يرى كانط أن الحقيقة غاية الجميع ، فهي مطلوبة عقليا و منشودة أخلاقيا . إنها ما يجب أن يعلمه المرء و يعمل به . فالبحث عنها وقَوْلُها واجب أخلاقي ، فلا أحد يبحث عن الخطإ من أجل الخطإ . و الكذب ليس قيمة حتى يكون هدف الإنسانية و غاية البحث العلمي . و قد يؤدي الكذب إلى مصلحة فردية و يعود على الشخص بالنفع ، لكنه لن يكون قيمة عقلية و هدفا إنسانيا . هذا ما يجعل الحقيقةَ فضيلةً والبحث عنها و قولها واجب مطلق لا يجوز عقليا و أخلاقيا التكتم عليها و إخفاؤها و إلا ساد الكذب و انتشر التضليل وتم الترويج للمغالطات . فقيمة الحقيقة في الارتقاء بالقدرات العقلية و استقامة السلوك.
_ القيمة التحريرية : يرى الفيلسوف هيدجر أن الإنسان التاريخي في حياته اليومية المشتركة مُكْرهٌ على التصرف كما يتصرف الناس ، فيجد نفسه تائها عن ذاته و عن حقيقة الواقع ، مشغولا بحاجياته عن ذاته و واقعه و بمشاكل الحياة الجزئية اليومية التي لا تترك له الفرصة للتفكير في سِرِّ وجوده و وجود العالم . وأنه وهو يبحث عن الحقيقة يجد نفسه مُقيما في التيه أي اللاحقيقة ، إنه يبحث عن الحقيقة وسط التيه ، يجد نفسه تائها عن ذاته، ناسيا لها و ضائعا عنها . يقول هيدجر : " التيه هو الميدان المفتوح للغلط و أساسه . " . ونحن في التيه مبعدون عن الحقيقة ، عن سر وجودنا . إن الحقيقة توجد في تضاد مع التيه ، لن تُرفع عنها الحُجُب إلا بمقاومة التيه ، و العمل على التحرر منه بالعودة إلى الذات لبناء هويته و يحقق قيمته و يمارس حريته . و لذلك يعرف هيدجر الحقيقة بأنها الحرية . فقيمة الحقيقة في تخليص الإنسان من التيهان . و لا يمكن التخلص من التيه إلى الأبد ، لأنه سيرورة دائمة لا تتوقف . فقيمة الحقيقة في أن تكون فكرة نستعيد بها ذواتنا و تنقدنا من الضياع.
_ القيمة السياسية : أما الفيلسوف الألماني إريك فايل Eric WEIL(1904-1977) فيبين أن آخَرَ( مقابل) الحقيقة ليس هو الخطأ ، لأن الخطأ من نفس جنس الحقيقة ؛ إنه معرفي مثلما أن الحقيقة معرفية . لذلك فليست الحقيقة كما يقال سوى أخطاء يتم تصحيحها . و الإنسان وهو يبحث عن الحقيقة يقع في الخطإ ، و هو إذ يصحح الخطأ يسير نحو الحقيقة . إذا فآخر الحقيقة ( أي ما ليس حقيقة) إنما هو العنف . و العنف هو كل فعل (عضلي أو رمزي ) يُسبب أذى أو ضررا جسديا كان أو نفسيا . وليس العنف معرفة ، وليس هو من جنس الحقيقة . و تتعدد أشكال العنف ، وقد يتخذ صورا متنوعة . و قد يمارس العنف بالخطاب ( اللغة ) من قبل سلطة لتمارس هيمنتها و استبدادها ، و بذلك تفرض واقعا غير معقول . و عليه لا يكون الخطاب إلا تأسيسا للعنف و متطابقا معه ، و متناقضا مع العقل . وتكمن قيمة الحقيقة في التصدي للعنف لا بالعنف و إنما بالخطاب المعقول الذي يساير العقل لا ذلك الذي يبرر الواقع الذي تفرضه سلطة مُسْتَبِدة ن سلوك الإنسا. و بذلك لا تكون الحقيقة هي التطابق مع الواقع و إنما هي تطابق الإنسان مع العقل بحيث يكو ن مؤسسا على مبادئ العقل لا مسايرا لمقتضيات الواقع الذي تفرضه سياسة سلطة . وعليه فقيمة الحقيقة في دورها السياسي لمواجهة كل أشكال العنف .
خلاصة : تتعدد معاني الحقيقة و تتنوع معايير تمييزها و قيمها ؛ فتعدد أوجهها دليل على طابعها الإشكالي ، و دليل على أن ليس ثمة خطاب واحد يمتلكها أو يمثلها في مختلف أبعادها و وُجُوهِها . وعليه لا ينبغي النظر إلى مختلف المواقف أنها تصورات متناقضة معادية لبعضها بل تدل على نسبيتها ، و أن كل واحدة تمثلها من زاوية معينة وفي حقبة محددة لا في شموليتها و إطلاقها . إذا فكل فلسفة أو علم أو نظرية إن هي إلا تعبير نسبي مؤقت للحقيقة أو لحظة في سيرورة البحث عنها دون أن تكون الكلمة الفصل أو النهائية .
1) الرأي و الحقيقة :
ليست الحقيقة شيء في الواقع ، الواقع هو مجموع الأشياء ، والأشياء قد توصف بأنها موجودة أو غير موجودة ، لكنها لا توصف بأنها حقيقة أو خطأ . إذا فأين توجد الحقيقة ؟ و ماذا تكون ؟ لا توجد الحقيقة إلا في العقل على شكل أفكار ، إنها ما يفكر فيه العقل و تعبر عنه اللغة . يقول أستاذ الرياضيات بجامعة فيكتوريا جون ما كليش john McLeish : ‘‘ إن الحقيقة ليست مكونة من أشياء ، إنها ليست سوى أفكارا . و في الواقع فإن الأفكار وحدها هي الحقيقة .’’ . وإذا كانت الحقيقة توجد في العقل فهل كل ما يوجد في العقل حقيقة ؟ و متى تكون الفكرة حقيقة ؟ الحقيقة هي كل نتيجة ثبتت صحتها بالبرهان و تأكد صدقها بالتجربة . وعليه فما ثبت بالبرهان هو حقيقة صورية ، و ما تأكد بالتجربة فهو حقيقة مادية . وإذا كان الناس يبحثون عن الحقيقة فلهم آراء . و الرأي وجهة نظر شخصية تتضمن حكما ذاتيا متسرعا عن الأشياء تمليه الحاجات و الأهواء و الميول . هذا عن الرأي الشخصي ، أما الرأي العام فيدل على مجموع التمثلات و الأحكام التي يتداولها الناس في حياتهم اليومية حول أشياء و قضايا تخصهم يعتقدون أنها حقائق . وعلى العموم فالرأي تمثل أو انطباع يستميت الناس في التشبث به و يرفضون مراجعته ، بل و قد يرفضون في ضوئه ما جَدَّ في مجال العلوم .
يذهب الفيلسوف الفرنسي بسكال blaise PASCAL (1623-1662) في نقده للاتجاهات العقلانية إلى التأكيد أن العقل ليس بإمكانه احتكار الحقيقة مادام أن ثمة حقائق تتجاوز قدراته ، ولا يمكنه البرهنة عليها ، لأنها حقائق قلبية يشترك فيها كل الناس و يعلمونها بتلقائية ، وتمثل قاعدة كل المعارف الممكن اكتسابها لديهم، ويتماثل هذا النوع من الحقائق مع الآراء .
فالآراء قد تتحكم في العقول و تحجبها عن الانفتاح على الحقيقة . ولقد نَظَّرَ بعض الفلاسفة لهذا الموقف مؤكدين أن الآراء حقائق ، و أن العلوم ليست إلا استمرارا للآراء . ومنهم الفيلسوف البولوني إميل مايرسون Emile MEYRSON(1859_1933) الذي بين أن العلم ، مهما تكن درجة دقته ، إن هو إلا استمرار و امتداد للمعرفة العامية ؛ و أن الفرق بينهما في الدرجة لا في الطبيعة . و هو الأمر الذي بينه أيضا العالم الفيزيائي الألماني ماكس بلانك max planck (1858-1947) والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1918 بقوله : " إن المنطق العلمي ليس في وسعه أن يستنبط من مقدمات معطاة شيئا مغايرا لما يستطيع منطق الحس المشترك العادي أن يستنبطه ." إن المعرفة بالحقيقة تبدأ من الرأي ، فهو أساسها الذي تشيد عليه . و عليه يكون الرأي حقيقة أولية .
إذا فإذا كان العامة و معهم جماعة من الفلاسفة يعتقدون أن الرأي حقيقة ، فإن جماعة أخرى من الفلاسفة و العلماء أكدوا أن العلم عَمِل على تعرية هذه القناعة و الإطاحة بها . يقول الأنتروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروسLévy STRAUSS (1908-2008) : " لا بد من أن ندير ظهورنا إلى كل ما هو معاش من أجل الوصول إلى فهم الواقع ." . إن تاريخ العلم أبان على الدوام خطأ الرأي . و لذلك فإن العلم ، كما يقول فيلسوف العلم الفرنسي غاستون باشلار BACHELARD (1884-1962) ، يعارض الرأي من حيث المبدأ و الموضوع و المنهج و النتائج . فالرأي على خطإ دائما ، لأنه لا يفكر البتة لأنه لا ينظر إلى الأشياء لمعرفة حقيقتها ، وإنما لحاجته إليها ومصلحته فيها و التمتع بها . ولأنه لا يفكر فإنه لا يعرف . يقول باشلار : " إن الرأي يترجم الحاجات إلي معارف ". و لذلك لا يمكن تأسيس معرفة علمية عليه بل يجب هدمه والتخلص منه ، لأنه عائق لسيرورة المعرفة العلمية لا يجعل الأشياء مشكلة يتساءل عنها و يفكر فيها بل موضوع إشباع الحاجات و الميول و الرغبات . إذا فالبحث عن الحقيقة من اختصاص العلوم لأنها معرفة تساؤلية تعرف كيف تطرح وتتناول المشاكل . لذلك فالحقيقة ليست معطاة و لا جاهزة ، و إنما هي بناء .
هل معنى هذا أن ليس للعلماء آراء ؟ إن العلم يرفض تبني رأي قبلي سابق على المعرفة بحقائق الأشياء ، لكنه يقبل بتأسيس رأي بعدي على المعرفة بحقائق الأشياء .
2) معايير الحقيقة
ليس كل ما نعرفه حقيقة ، فبعض ما نعرفه حقيقة و بعض ما نعرفه ليس حقيقة . فالحقيقة و اللاحقيقة مختلطتان ، و لذلك لا توجد حقيقة خالصة ، مطلقة و كاملة . لهذا تساءل الفلاسفة و العلماء عن معايير تمييز الحقيقة عن أضدادها ، لكنهم لم يتفقوا على معيار واحد ، فما هي هذه المعايير ؟
_ المعيار الذاتي الداخلي : يذهب اسبينوزا SPINOZA(1632-1677) إلى القول أن الحقيقة معيار ذاتها ، لا تحتاج إلى دليل منطقي يثبتها و لا إلى تجربة تؤكدها أي لا تحتاج إلى معيار خارجي . فالحقيقة إذا فكرةٌ أولية صحيحة ، لا يشك في صحتها واضحة بذاتها يقينية ، كاملة ثابتة و ضرورية . لا تحتاج لدليل بل هي الدليل على كل شيء ، يحتاجها العقل في براهينه ، و يتأسس عليها العلم في بحثه . و ليست الحقيقة نتيجة بل فكرة أولية ، لا ينتهي إليها العقل بل إنها ما يُفرض عليه وأن ما يستخلص منها بالاستنباط فهو نتائج يقينية لا حقائق . و يشبه اسبينوزا الحقيقة بالنور الذي يضيء الأشياء و لا يحتاج لشيء يضيئه ، إنه دليل على ذاته و على غيره ، كذلك الحقيقة دليل على ذاتها و دليل على غيرها .
_ المعيار المنطقي العقلي : يرى الفيلسوف الفرنسي ديكارت René DESCARTES (1596- 1650) أن معيار الحقيقة عقلي . فالعقل أعدل قسمة بين الناس ، و الحقيقة لا توجد إلا في العقل وحده ، فهو مصدر الحقيقة و معيارها ، و على الإنسان أن يُحْسِن و يُحْكِم استخدام العقل لتكون منطلقاته و نتائجه يقينية . و يميز ديكارت بين نوعين من الحقيقة ، حقيقة تعلم بالحدس و هي البداهات ، وحقيقة تعلم بالاستنباط و هي النتائج المنطقية . والحدس نور عقلي لإدراك لحقائق البديهية مباشرة و على الفور . فالحدس و الاستنباط إذا عمليتان عقليتان بهما نميز بين الحقيقة و اللاحقيقة . و ما لا يعلم بالحدس أو الاستنباط ليس حقيقة . يقول ديكارت : " إننا نعرف الحقيقة حينا بالحدس ، و حينا بالاستنباط ." و يشترط ديكارت للحصول على اليقين الذي لا يخالطه شك احترام العقل لأربعة قواعد منهجية هي : البداهة – التحليل – التركيب – المراجعة .
_ المعيار التجريبي الواقعي : تعتبر الفلسفة التجريبية أن ليس في العقل إلا ما تمدنا به التجربة من الواقع . و عليه فالحقيقة هي الفكرة الصادقة التي تؤكد التجربة مطابقتها مع الواقع ، تستنسخه و تكون صورة أمينة له . فمعيار الحقيقة هو تطابق الفكرة مع الواقع تجريبيا .
_ معيار المنفعة : وهو المعيار الذي تقول به الفلسفة البرجماتية . و البرجماتية فلسفة أمريكية ، ظهرت في نهاية القرن 19 . تعتبر هذه الفلسفة الحقيقة كل فكرة عملية قابلة للتطبيق في الواقع و تؤدي إلى النجاح و تحقيق المصالح و المنافع الخاصة ؛ إنها خطة ثمينة لانجاز عمل ناجح نافع و مفيد ، وهذا ما يجعل الحقيقة وسيلة أو أداة . وعليه فإن الفكرة ليست حقيقة في ذاتها ، بل في كونها وسيلة . و لذلك لم تعد الحقيقة هي ما نفكر فيه بل هي ما نعمله بنجاح لفائدة حياتنا من ازدهار و رفاهية ، أي أنها ليس صورة للواقع بل أداة للفعل و التأثير فيه لتحقيق نتائج مُرْضية ؛ إنها ما يتطابق مع المنفعة لا مع الفكر و الواقع . فما ينفعني حقيقة و ما يضرني ليس حقيقة . وعليه فما ينفعني يضر غيري ، و ربما أن ما ينفعني في ظروف يضرني في ظروف أخرى . و لذلك تكون الفكرة الواحدة في نفس الوقت حقيقة و لاحقيقة ، تختلف باختلاف الظروف و الأشخاص . الحقيقة بهذا المعنى لا تكون فكرة مطلقة ، كما أنها تفقد قيمتها العقلية و الأخلاقية .
3) قيمة الحقيقة :
وكما اختلف الفلاسفة حول معايير الحقيقة ، فإنهم اختلفوا أيضا حول قيمتها ، فأين تكمن قيمتها أي أين يتجلى دورها الفعلي وأهميتها العملية ؟ و لماذا هي مطلوبة ؟
_ القيمة العقلية و الأخلاقية : يرى كانط أن الحقيقة غاية الجميع ، فهي مطلوبة عقليا و منشودة أخلاقيا . إنها ما يجب أن يعلمه المرء و يعمل به . فالبحث عنها وقَوْلُها واجب أخلاقي ، فلا أحد يبحث عن الخطإ من أجل الخطإ . و الكذب ليس قيمة حتى يكون هدف الإنسانية و غاية البحث العلمي . و قد يؤدي الكذب إلى مصلحة فردية و يعود على الشخص بالنفع ، لكنه لن يكون قيمة عقلية و هدفا إنسانيا . هذا ما يجعل الحقيقةَ فضيلةً والبحث عنها و قولها واجب مطلق لا يجوز عقليا و أخلاقيا التكتم عليها و إخفاؤها و إلا ساد الكذب و انتشر التضليل وتم الترويج للمغالطات . فقيمة الحقيقة في الارتقاء بالقدرات العقلية و استقامة السلوك.
_ القيمة التحريرية : يرى الفيلسوف هيدجر أن الإنسان التاريخي في حياته اليومية المشتركة مُكْرهٌ على التصرف كما يتصرف الناس ، فيجد نفسه تائها عن ذاته و عن حقيقة الواقع ، مشغولا بحاجياته عن ذاته و واقعه و بمشاكل الحياة الجزئية اليومية التي لا تترك له الفرصة للتفكير في سِرِّ وجوده و وجود العالم . وأنه وهو يبحث عن الحقيقة يجد نفسه مُقيما في التيه أي اللاحقيقة ، إنه يبحث عن الحقيقة وسط التيه ، يجد نفسه تائها عن ذاته، ناسيا لها و ضائعا عنها . يقول هيدجر : " التيه هو الميدان المفتوح للغلط و أساسه . " . ونحن في التيه مبعدون عن الحقيقة ، عن سر وجودنا . إن الحقيقة توجد في تضاد مع التيه ، لن تُرفع عنها الحُجُب إلا بمقاومة التيه ، و العمل على التحرر منه بالعودة إلى الذات لبناء هويته و يحقق قيمته و يمارس حريته . و لذلك يعرف هيدجر الحقيقة بأنها الحرية . فقيمة الحقيقة في تخليص الإنسان من التيهان . و لا يمكن التخلص من التيه إلى الأبد ، لأنه سيرورة دائمة لا تتوقف . فقيمة الحقيقة في أن تكون فكرة نستعيد بها ذواتنا و تنقدنا من الضياع.
_ القيمة السياسية : أما الفيلسوف الألماني إريك فايل Eric WEIL(1904-1977) فيبين أن آخَرَ( مقابل) الحقيقة ليس هو الخطأ ، لأن الخطأ من نفس جنس الحقيقة ؛ إنه معرفي مثلما أن الحقيقة معرفية . لذلك فليست الحقيقة كما يقال سوى أخطاء يتم تصحيحها . و الإنسان وهو يبحث عن الحقيقة يقع في الخطإ ، و هو إذ يصحح الخطأ يسير نحو الحقيقة . إذا فآخر الحقيقة ( أي ما ليس حقيقة) إنما هو العنف . و العنف هو كل فعل (عضلي أو رمزي ) يُسبب أذى أو ضررا جسديا كان أو نفسيا . وليس العنف معرفة ، وليس هو من جنس الحقيقة . و تتعدد أشكال العنف ، وقد يتخذ صورا متنوعة . و قد يمارس العنف بالخطاب ( اللغة ) من قبل سلطة لتمارس هيمنتها و استبدادها ، و بذلك تفرض واقعا غير معقول . و عليه لا يكون الخطاب إلا تأسيسا للعنف و متطابقا معه ، و متناقضا مع العقل . وتكمن قيمة الحقيقة في التصدي للعنف لا بالعنف و إنما بالخطاب المعقول الذي يساير العقل لا ذلك الذي يبرر الواقع الذي تفرضه سلطة مُسْتَبِدة ن سلوك الإنسا. و بذلك لا تكون الحقيقة هي التطابق مع الواقع و إنما هي تطابق الإنسان مع العقل بحيث يكو ن مؤسسا على مبادئ العقل لا مسايرا لمقتضيات الواقع الذي تفرضه سياسة سلطة . وعليه فقيمة الحقيقة في دورها السياسي لمواجهة كل أشكال العنف .
خلاصة : تتعدد معاني الحقيقة و تتنوع معايير تمييزها و قيمها ؛ فتعدد أوجهها دليل على طابعها الإشكالي ، و دليل على أن ليس ثمة خطاب واحد يمتلكها أو يمثلها في مختلف أبعادها و وُجُوهِها . وعليه لا ينبغي النظر إلى مختلف المواقف أنها تصورات متناقضة معادية لبعضها بل تدل على نسبيتها ، و أن كل واحدة تمثلها من زاوية معينة وفي حقبة محددة لا في شموليتها و إطلاقها . إذا فكل فلسفة أو علم أو نظرية إن هي إلا تعبير نسبي مؤقت للحقيقة أو لحظة في سيرورة البحث عنها دون أن تكون الكلمة الفصل أو النهائية .
hager el fezazi- عدد المساهمات : 102
تاريخ التسجيل : 06/12/2009
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى