منتدى الفلسفة ـ المدرسة العليا للأساتذة - فــــــــاس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

محاكمة سقراط

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

محاكمة سقراط Empty محاكمة سقراط

مُساهمة  hager el fezazi الجمعة مارس 19, 2010 1:54 pm

خمسمائة قاض وقاض جلسوا ، الواحد بجانب الاخر ، على المدرج ذي المقاعد الخشبية المغطاه بالحصر ، وفي مواجهتهم ، رئيس المحكمة محاطاً بكاتبه والحرس . وفي اسفل المدرج وضع الصندوق الذي سيضع فيه القضاه احكامهم بعد انتهاء المحاكمة . الجلسة علنيه . ولا يسمح فيها لغير الرجال بالحضور . اما الطقس ، فقد كان جميلاً ، مما ادخل الارتياح الى نفوس الجميع وجعلهم يأملون بجلسة كاملة لا يربك مجراها مطر يهطل على الرؤوس او برد يعطل تواصل الافكار . واذا بدا لنا ان انعقاد محكمة في الهواء الطلق امر مستغرب بل وطريف ، اليوم ، فلنتذكر اننا في اثينا ، في صباح من اصبحة ربيع عام 399 قبل الميلاد .
اثينا هذه التي قدمت الديمقراطية للعالم ، تعيش فترة عصيبة ، لقد هزمتها سبارطة في حرب دامت بينهما سبعاً وعشرين سنة ، وفرضت عليها شروطاً قاسية . منها نظام "الثلاثين مستبداً " بقيادة احد ابنائها ، كرينياس ، الذي تخلص منه الاثنيون منذ وقت ليس ببعيد . في هذا الجو من القنوط الوطني . كثرت الاحقاد وتعددت حوادث تصفية الحسابات لكن العدالة ظلت تعمل والقضاة في اثينا ، وعددهم ستة الاف ، مواطنون متطوعون يجري اخبارهم سنوياً بشكل عشوائي . وهم يوزعون ، بعد الاختيار، في اثنتي عشرة محكمة في كل واحدة منها خمسمائة قاض وقاض

متهم اليوم شيخ ذو لحية بيضاء وثياب رثة . انه ابن النحات سوفرونيسك والقابلة فيلا ريت وهو الملقب بسقراط . لكن ما هي التهمة التي سيحاكم اليوم على اساسها؟ لقد اتهمه احد المواطنين ، ويدعى مليتوس ، بالكفر بالالهه وبادخال شياطين جديدة الى المدينة وافساد الشبية . وهي تهمة تستحق عقوبة الموت . ومن هو سقراط هذا ؟ انه رجل بلغ السبعين من عمره ، قبيح المنظر بعينية الجاحظين وانفه الأفطس ووجهة الممتلئ ناهيك عن ثيابه المهملة والمكونة من معطف صوفي لا أزرار له ولا حزام . وفوق كل ذلك ، فأنه لا يمشي إلا حافي القدمين ، في الصيف كما في الشتاء . ولد سقراط في أثينا عام 469 ق .م في عائلة تعمل في النحت وعبثاً حاول أبواه تعليمه المهنة . كان لا يميل إلا للحوار ومناقشة الآخرين حول مختلف المواضيع داعياً إياهم إلى التفكير معه والتأمل . كان يجوب المدينة يتحدث إلى المار ويستوقف الشباب يفقههم في أمور الوجود وجوانب الحياة. وأثينا في ذلك العصر من الديمقراطية ، كانت تعج بالفلاسفة ورجال السياسة والأخلاق يسعى الناس إليهم عنهم أصول الفكر وكان هؤلاء يتقاضون عن تعليمهم أتعابا باهظة في معظم الأحيان . أما سقراط فكان يرفض بيع فكره كان يعتبر أن الفلسفة ممارسة عضوية ويومية ، وأنها وبالتالي ، نمط حياة . وغنى عن القول أن سقراط لم يكن مواطناً أثينيا كالآخرين . فهو لم يأبه لماديات الدنيا على الرغم من زواجه وإنجابه ثلاثة أولاد بل كان دائم الزهد في ما يشغل الناس . وهذا ما جعله غامضاً ، بل وموضع سخرية في الكثير من الأحيان . غير أن سقراط لم يعدم وسيلة لتوضيح حقيقة أمره كان يرد على مسامع محاوريه أن حقيقة الهية تدفعه للتصرف وان هذه الحقيقة يمكن أن لا تكون سوى ضميره القابع في أعماق نفسه . تلك المشاعر وهذه الأفكار هي التي لم ترق للبعض ، وهي التي أوصلته لان يمثل اليوم أمام المحكمة ، باعتبار انه " يفسد الشبيبة ولا يؤمن بآلهة المدينة" .

في بدء الجلسة ، ولم يكن في نظام المحاكمات آنذاك ما يسمى اليوم بالادعاء العام ، وقف المدعي الأول مليتوس يتكلم عن مفاسد سقراط في المجتمع . وأعقبه مدعيان آخران ليكون وانيتوس وكلهم طلبوا الحكم بالإعدام على " العجوز الشرير " . ولانيتوس هذا مبرر آخر للادعاء على سقراط فقد كان ابنه تلميذا من تلاميذ الفيلسوف و " مضللاً به " وهذا ما يفسر انشغاله عن صنعة أبيه وهي الاتجار بالجلود . يضاف إلى ذلك أن سقراط تهكم عليه مرة أمام الناس خلال مناقشة ظهر فيها الجاهل وحديث النعمة على قدر كبير من السخف . ومن سوء طالع العجوز أيضا ، أن كريتياس ، المستبد الدموي والعميل لإسبارطة ، كان من بين تلاميذه ، في فترة من فترات حياته . اتخاذه كريتياس وآخرين غيره ممقوتين في مجتمعهم تلامذة له هو من قبيل انفتاحه على الجميع ودون النظر إلى أرائهم السياسية والفلسفة أو إلى نمط الحياة التي يعيشون . وإذا توخينا الاختصار ، قلنا أن سقراط ، بأفكاره ومناقشاته ، بدأ يصبح شخصاً مزعجاً ، ليس للسلطات فقط ، بل للآباء الذين رأى بعضهم أبناءه يخرجون عن طاعته ويلحقون بالمعلم.

بعد انتهاء المدعين الثلاثة من كلامهم ، جاء دور المتهم . ومن إجراءات المحاكمة الأثينية في ذلك العصر أن يتولى المتهم شخصياً الدفاع عن نفسه . وإذا كان غير قادر ، فان محترفاً يقوم بتلقينه الدفاع وتحفيظه إياه عن ظهر قلب . يجب أن يستغرق الوقت الذي استغرقه الادعاء لا أكثر . بدأ سقراط دفاعه برد التهم ومن ثم ، بالانتقال إلى الهجوم ، قال إن من يدعي العلم ، من بين كل من ناقشت وحاورت ، وإنما هم جهلة ولا يفقهون من العلم شيئاً والحقيقة هي أني أعلم الناس . ذلك لان الناس يعتقدون أنهم يعرفون شيئاً وهم ، في الواقع ، لا يعرفون أي شيء . أما أنا فأني اعرف أني لا اعرف . وانتهى سقراط بتحذير القضاة من الحكم عليه بالموت . وأن فعلوا فإنهم لن يجدوا مثله وسيغرقهم الإله و الاثنيين في سبات ابدي . أما إذا لم يفعلوا فسيعود إلى نشر أفكاره كما فعل دائماً وكما أوحى له ضميره . لم يستدر سقراط عطف القضاة كما يفعل عادة المتهمون الماثلون أمام مثل هذه المحكمة . لقد قال ما قاله وجلس دون أي انفعال . أما القضاة ، فقد بدؤوا ينزلون المدرج ليضع كل واحد منهم حكمه في الصندوق . هذا الاقتراع هو أولي . انه ينحصر في تقرير تجريم أو عدم تجريم المتهم .

قضت نتيجة التصويت بتجريم سقراط بفارق بسيط في الأصوات : 281 صوتاً ضد 220 . ويقتضى القانون الأثيني ، في هذه الحال ، أن يعين المتهم نفسه العقوبة التي يراها ، هو مناسبة . وقف سقراط وأعلن انه يسره أن تتعهده البريطانية ! وتعالى الصخب وصياح الاستنكار من الحضور الذين رأوا في كلامه تهكماً وسخرية من هيئة المحكمة ومن كل الموجودين . ذلك لان البريطانية مؤسسة أثينية تتعهد عظام الرجال وتتولى تأمين معيشتهم بشكل لائق وكريم
ما أن سمع القضاة كلام سقراط ، حتى قرروا أن يصتوا بأنفسهم على نوع العقوبة ومستواها . نزلوا ثانية إلى حيث الصندوق وصوتوا على أن يكون الحكم بالإعدام هو الجزاء الذي يجب أن يناله سقراط وذلك بأغلبية كبيرة . لقد أوقع الرجل نفسه في التهلكة بعد أن كان يمكنه أن ينقذها بتصرف آخر أكد للجميع انه يسعى للموت بكل رغبة وحماس .

مضى شهر على صدور الحكم . أما طريقة للتنفيذ فهي الأسهل من بين لائحة لا يخلو بعض بنودها من العنف: تجرع كمية من سم يحضر خصيصاً للمناسبة. خلال هذا الشهر . جاءه كريتون ، احد تلامذته المخلصين ، عرض عليه أن يقبل الهرب من السجن ، بعد أن يتدبر كريتون أمر رشوة الحراس ، فرفض سقراط قائلاً بوجوب احترام العدالة وقوانينها ، حتى ولو كانت هذه القوانين جائزة .

هذا الشهر الذي فصل بين صدور الحكم وتنفيذه ، أمضاه سقراط بهدوء أدهش المتصلين به من حراس ونزلاء . أما لماذا ابقي شهراً كاملاً ينتظر مصيره ، فهذا يعود إلى أن تنفيذ إحكام الإعدام لم يكن مسموحاً به في الشرائع الدينية آنذاك إلا بعد عودة الكهنة من جزيرة ديلوس
وفي اليوم التالي لهذه العودة ، تجمهر تلامذته في السجن ووصلت زوجته . وما إن رأته والحراس يفكون أصفاده تمهيداً للإعدام ، حتى أجهشت بالبكاء ونتفت شعرها ومزقت ثيابها
تأثر سقراط وطلب إليها أن تذهب . ثم التفت نحو أصدقائه وبدأ يحدثهم ويتناقش وإياهم في مواضيع مختلفة في الفن والموت والروح .... وبينما هو كذلك ، إذ بالجلاد يقاطعه :
- لا تتحرك كثيراً يا سقراط ، وإلا يفقد السم مفعوله وللمرة الأولى ينفعل سقراط ويقول للجلاد:
- لماذا لا تضع كمية مضاعفة ؟ هذه مهنتك .
وعاد إلى التحدث مع تلامذته الذين لم يتمكنوا من إخفاء إعجابهم ودهشتهم . لقد استطاع هذا الإنسان أن ينتصر على غرائزه وعلى مخاوفه . وعندما اقترب الوقت المخصص لتجرع السم ، دخل سقراط غرفة مجاورة ليستحم وهو يقول :
- أريد أن أوفر على النساء تنظيف جثة ميت . طال الاستحمام والجلاد ينتظر على الباب . ولما خرج سقراط ، اقترب منه الجلاد وفي يده كأس السم . قدمه إليه وقال له :
- سقراط اعرف انك لن تشتمني كما يفعل الآخرون . أنت عاقل وتستطيع أن تتحمل قدرك .
-مرحى لك! هيا . ماذا علي أن افعل ؟
- لا شيء سوى خطوات قليلة بعد التجرع . وعندما تشعر بثقل في ساقيك ، عليك أن تستلقي والباقي يتولاه السم نفسه .
وتناول سقراط الكأس وتجرعه دفعة واحدة بكل هدوء . لم يتمالك تلامذته مشاعرهم فانفجروا يجهشون بالبكاء مثيرين غضب المعلم
- ماذا تفعلون ؟ لقد أمرت زوجتي بالرحيل حتى لا أرى ما يشبه مظاهر الضعف هذه أريد أن أموت بصمت الخشوع . فتمالكوا مشاعركم
وصمت الجميع فوراً . بعدها استلقى سقراط كما أشار جلاده . وجاء الجلاد يقيد رجليه ويقول له :
-هل تشعر بشيء؟
-كلا
وطفق الجلاد يشرح للحاضرين أن الموت يصل إلى القلب بعد تبلغ البرودة الرجلين والبطن.
وعندما شعر سقراط بهده البرودة تصل إلى بطنه ، أشار إلى تلميذه المخلص كريتون بالاقتراب ليقول له بصوت ضعيف :
-كريتون ، في ذمتنا ديك لا يسكولاب . ادفع له ثمنه دون نقاش .
-حاضر يا سيدي هل تريد شيئاً أخر ؟
لم يجب سقراط . لقد أغمضت عيناه ...
" ديك لايسكولاب " إنها لا شك عبارة أراد بها سقراط التهكم على اله الطب . لم يوفر سخرياته على الآلهة ، حتى وهو على وشك أن يموت ! وما الموت بالنسبة له ؟ أليس هو التحرر ؟ أليس الشفاء من مرض هو الحياة ، كما كان يردد دائماً ؟

هذه الجملة التي قالها سقراط قبل موته ، والتي تمثل التشاؤم الهادئ والساخر بأبرز معانيه ، كانت عبارة رسالة من أول رجل أعدم في التاريخ بسبب أفكاره .
hager el fezazi
hager el fezazi

عدد المساهمات : 102
تاريخ التسجيل : 06/12/2009

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

محاكمة سقراط Empty رد: محاكمة سقراط

مُساهمة  إيمانويل كانط السبت مارس 20, 2010 12:06 pm

شكرا لك أختي هاجر مساهماتك أغنت المنتدى و جعلته منبعا لا ينضب للمعرفة والعلم

إيمانويل كانط

عدد المساهمات : 35
تاريخ التسجيل : 02/12/2009

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى