منتدى الفلسفة ـ المدرسة العليا للأساتذة - فــــــــاس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

درس الغير " شعبة العلوم"

اذهب الى الأسفل

درس الغير " شعبة العلوم" Empty درس الغير " شعبة العلوم"

مُساهمة  hager el fezazi الخميس مارس 18, 2010 1:46 pm

لا يوجد في الواقع إنسان منعزل لأنه كائن اجتماعي بالطبع . ولقد حكم الوضع البشري على الإنسان أن يكون شخصا ، كما فرض عليه أيضا أن يتعايش مع الغير. و وجودنا مع الغير هو قدرنا الذي لا نملك الفرار منه . و أن الحديث عن الغير هو حديث وتأمل في العلاقات الإنسانية . و لا تقال لفظة الغير إلا على الإنسان . فما هو الغير؟



الغير ذات أخرى تشبهي و في نفس الوقت تختلف عني ، لكنها لا تطابقني ، له هوية يتميز بها ، و له قيمةٌ تَفْرِضُ الأخلاقُ احترامها ، ويُمارس أفعاله بحرية . أنا و هو منتميان لنوع واحد هو الإنسانية . لا أحدَ يطابق أحدا، و هذا ما يفسر غِنَى الواقع البشري و خصوبة وتنوع العلاقات الإنسانية . فالغير هو أنا أخرى ، أَيْ أيُّ شخص ليس هو أنا و لا أنا هو ، متميز عني لكنه في ارتباط معي . وقد يكون الغير فردا ( أنا أخرى ) أو جماعة ( نحن آخرون ) ، من الأقارب أو من الأباعد ، مجهولا أو معلوما، و قد يكون واقعيا أو مفترضا... إنه مفهوم متغير غامض يتسع ليشمل كل أفراد الإنسانية . و لذلك فإن مفهوم الغير يطرح إشكالية يمكن صياغتها في التساؤلات التالية : ما تأثير وجود الغير علي وجود الذات ؟ هل وجوده تهديد أم إغناء لوجود الذات ؟ وهل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة ؟ و إذا كانت معرفة الغير مستحيلة ، فهل يستحيل إقامة علاقة أخلاقية معه ؟ و هل تربطني به علاقة صداقة فقط ، أم أن علاقتي به هي علاقة غيرية ؟

1) وجود الغير:

يرى الفيلسوف الفرنسي ديكارت(1596-1650) أن على الإنسان العاقل أن يشك و لو مرة واحدة في حياته في كل شيء . ففي كل مرة يتبين له أن بعض ما اكتسبه خطأ . وحتى لا يترك الأمر للصدفة و لا يكون التصحيح جزئيا ، فإنه قرر أن يشك دفعة واحدة في كل شيء ليميز مرة واحدة و إلى الأبد بين الحقيقة و اللاحقيقة ، فشك في وجود الله و العالم وغيره من الناس بل و حتى ذاته . وفي اللحظة التي شك فيها في كل شيء تبين له بالحدس و البداهة أنه يشك ، و الشك فعل تفكير . و أن الذي يشك و يفكر هو‘‘أنا’’، إذا أنا أفكر فأنا موجود . فهذه حقيقة أولى و بديهية لا يرقي إليها الشك . و إطلاقا من هذه الحقيقة المطلقة استدل و استنتج وجود الغير . و عليه فيقينية وجود الغير ليست لها نفس درجة يقينية وجود الذات . و لولا معرفته بذاته ما عرف الغير ، و أنه لم يعرفه في ذاته و إنما كشبيه من خلال منهج المماثلة . فالأنا في نظر ديكارت هي الوجود الحقيقي المطلق و المصدر اليقيني لكل المعارف ، و بذلك يكون ديكارت قد سقط في فلسفة أناوحدية solipsisme ، يكون فيها وجود الغير ظني و احتمالي ، و وجود الذات جوهري و يقيني .

على عكس ذلك يرى الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر (1889_1976) أن الغير موجودٌ واقعا ، وإنه سابق في وجوده على وجود الذات. ولا يحتاج وجود الغير إلى دليل. لكن المشكلة التي يطرحها وجود الغير هي كيف يؤثر وجوده على وجود الذات ؟ يسعى هيدجر لمقاربة هذه الإشكالية إلى تحليل علاقة الأنا بالغير في الحياة اليومية المشتركة . أن الشخص في حياته اليومية يوجد مع الغير، وأن الغير في نظره هم الناس عموما، ولا أحد من الناس هو الناس . و الناس هم أولائك الذين نحيى بينهم ، ويؤثرن في وجودنا دون أن نشعر بوجودهم ، و وجودهم سابق على وجودي ، يعملون على تنشئتي ودمجي في عالمهم، وأسعى أنا بدوري إلى الاندماج معهم من خلال تَشَرُِّبِـي و تأثري بقيمهم و معاييرهم و تقاليدهم الاجتماعية . فالغير( الناس ) ديكتاتور يفرض عليَّ سلطته و يُمْلِي عليَّ أوامره ، و لا يسمح لي بممارسة حريتي و بناء هويتي . و لذلك فأنا لا أتصرف إلا كما يتصرفون ، ولا أسلك إلا كما يسلكون . بانقيادي لهم ، أستنسخ تصرفاتهم ، أقلدهم في أفعالهم ، و بالتالي أفقد هويتي ، أُفْرَغُ من كينونتي ، أذوب فيهم ... إنني بينهم لست أنا ذاتي ، بل نسخة منهم ، صنيعتهم ولست مشروعا ذاتيا. وهذا ما يجعل هيدجر يقول أن الشخص في حضور الغير يصير "لا أحد". هذا النوع من الوجود يوصف بالوجود الزائف في مقابل الوجود الأصيل للذات . فأصالة الغير في الاحتفاظ بذاته وبناء هويته و فرض قيمته وممارسة حريته . وهذا أمر لن يتأتى للشخص إلا بالتباعد عنهم ( أي اتخاذ مسافة عنهم ) لا هجرهم .

و إذا كان هيدجر قد عالج العلاقة بين الأنا بالغير في الحياة اليومية ، فإن الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر(1905_1980) عمل على مقاربة علاقة وجود الغير بوجود الذات من خلال فعل النظرة ( Le regard ) ، فالغير يؤكد وجوده من خلال نظرته . و النظرة هي الاتصال الأول و المباشر بين الأنا و الغير. فالغير ينظر إلي كما أنظر أنا إليه بخلاف الأشياء التي أنظر إليها و لا تنظر إلي . فالنظرة هي وضع أو تسليط عيون الغير لتعقب وتتبع سلوكات الذات . وأن نظرته تحمل حكم قيمة على ما يكون قد صدر مني من أفعال ، وقد يتولد عن نظرة الغير إلي شعور بالخجل . فأنا لا اشعر بالخجل إلا عندما أكون أمام الغير ، و يكون قد صدر عني تصرف سُوقِيٌّ مُشِينٌ و مَعِيبٌ . و بذلك يحولني الغير إلى موضوع و يعلو علي ، وفي هذه الحال استشعر سقوطي أمامه و أقلق على حريتي ، و من ثمة أرفض الاستمرار على هذا الوضع و أدخل معه في صراع لأستعيد حريتي . والخجل هو الشعور الذاتي الذي أنعكس به على نفسي و استرجع به حريتي ، فأكتشف إمكانيتي وأعمل على تصحيح أفعالي وأصنع هويتي كمشروع . لولا نظرة الغير إلي، ما كان من الممكن أن أعود إلى ذاتي و أكتشف إمكاناتي وأعمل على تحقيقها بحرية ، أصنع هويتي وأفرض قيمتي و احترامي. ففي غياب الغير أنا منشغل عن ذاتي بأي شيء . إذا فالغير في نظر سارتر إذ يقوم بدور سلبي ( يحولني إلى موضوع ) يؤدي وظيفة إيجابية تمكنني من العودة إلى ذاتي وصنع هويتي . فالأنا تبني ذاتها من خلال صراعها مع الغير . فالغير إذا هو الوسيط بيني و بين ذاتي .

إذا كان هيدجر قد بين من خلال تحليل العلاقة مع الغير في الحياة اليومية ليظهر تهديد الغير للذات ، فإن سارتر بَيَّنَ من خلال فعل النظرة دور الغير في جعل الشخص يكتشف ذاته و يعمل على بنائها. وإذا كان هيدجر قد بين أن بناء الذات يتم بالتباعد عن الغير في الحياة اليومية ، فإن سارتر بين أن بناء الذات يتم بالصراع مع الغير .

وإذا كان الغير يساعدني على معرفة ذاتي ، فهل أستطيع أنا معرفته عن طريق نظرتي إليه؟ و هل تتخذ العلاقة مع الغير صيغا أخرى خالية من الصراع كالتفاهم و التواصل و التعاطف ؟



2) معرفة الغير:

إذا كان الغير ذاتا مثلي، وأنه ضروري لوجود ذاتي، فهل معرفته ممكنة؟

ينتقد ماكس شيلر (1874-1928) المنهج الوضعي الذي حقق نجاحا باهرا في دراسة الظواهر الطبيعية عن طريق الملاحظة و التجربة و تجزيء الظواهر و إعادة بنائها. و إذا كان هذا المنهج صالحا لمعرفة الظواهر الطبيعية فإنه غير ملائم لمعرفة الغير كظاهرة إنسانية تعبيرية . فالغير ذات و ليس موضوعا ، لأنه نَفْسٌ في جسد ، و جسد فيه نفس ، له ظاهر و باطن ، باطنه يتجلى في ظاهره ، و ظاهره تعبير عن باطنه . و العلاقة بين الظاهر والباطن علاقة وحدة لا انفصام لها. فالغير وحدة كلية لا تقبل الانقسام أي فصل عالمه الداخلي النفسي عن ظواهره الجسدية الخارجية : فالابتسامة مثلا تعبير ظاهري عن فرحة باطنية . وهذا ما يجعل الغير ظاهرة تعبيرية . اختلاف الغير كظاهرة إنسانية عن الظواهر الطبيعية يقتضي التخلي عن محاولة معرفة الغير باعتماد المنهج الوضعي التجريبي، و استبداله بالمنهج الفينومينولوجي . إنه المنهج الملائم لمعرفة الغير ، و الذي يجعل معرفة الغير ممكنة . و ينظر المنهج الفينومينولوجي إلى الغير:

- كذات لا موضوع ، نشاركها عالمها الداخلي ونتعاطف معها، لذلك فأنا أعرف من خلال تجربتي الداخلية ذاتية الغير و عالمه الباطني.

- ككل أي في وحدته ، وهي وحدة لا تقبل القسمة و لا التحليل، لأنه نفس و جسد ولا يمكن اختزاله في أحدهما.

- كظاهرة تعبيرية ، أي أن ظاهره تعبير عن عالمه الداخلي ، و يمكن من خلال تجربتي أن أعرف ما إذا كانت ابتسامة الغير مثلا صادقة أو مزيفة .

فإذا كانت معرفة الغير كذات بحسب المنهج التجريبي الوضعي مستحيلة ، فإن معرفته بواسطة المنهج الفينومينولوجي ممكنة .

غير أن جاستون بيرجي ) Gaston Berger 1960-1896) يبين أن الاعتراف بذاتية الغير دليل على استحالة معرفته . فالإقرار بأن الغير ذاتٌ اعترافٌ بخصوصية عالمه الداخلي ، فله أسراره و تجاربه و مشاعره الخاصة التي يحياها بمفرده ، و يستحيل أن يشاركه فيها أحدٌ ، ويتعذر اختراق عالمه الداخلي. و يمثل Berger لهذا الأمر بتجربة الألم ، فأنا أحيى ألمي و لا يمكن لغيري أن يعاني ألمي و يشاركني فيه ، فكل ما بإمكانه هو أن يواسيني و يخفف عني بالكلام ، لكنه لن يعيش ألمي . فالعلاقة بين الذات و الغير هي علاقة انفصال . و هذا الانفصال لا يلغي وجود تواصل ، لكنه تواصل لغوي وليس تواصلا وجدانيا . وهذا ما يجعل معرفة الغير في حميميته مستحيلة . و استحالة معرفة الغير تجعل الغير غريبا ، و الغريب هو المختلف المجهول الأجنبي والدخيل ، وربما العدو الذي ينبغي الحذر منه و تجنبه و إقصاؤه . و معاملة الغير بهذه الطريقة تهديد للعلاقات الإنسانية .

وإذا كانت غرابة الغير تهديد للعلاقات الإنسانية ، فكيف يمكن التخلص منها و المحافظة على العلاقات الإنسانية .

3) العلاقة مع الغير:

إن الهدف من معرفة الغير، هو معرفة المبادئ التي تؤسس عليها العلاقة الإنسانية . إذا فما طبيعة العلاقة مع الغير؟ و كيف يجب أن تكون ؟

يرى كانط Kant (1724_1804) أن تجاوز غرابة الغير يتم أخلاقيا من خلال علاقة الصداقة ، و يميز كانط بين3 أنواع من الصداقة : صداقة المتعة واللذة ، صداقة المصلحة و المنفعة ، صداقة الفضيلة . فالصداقة كفضيلة قيمة يستحيل تحقيقها في صورتها المثلى على أرض الواقع . لكن السير إليها واجب تقتضيه الأخلاق . و الصداقة اتحاد بين أقارب يربطهم الجنس، السكن بالحي، اللغة، الدين، الوطن...، يجمعهم الحب و الاحترام و يتوفر لديهم نفس الاستعداد العقلي و الوجداني، وتوحدهم إرادة خيرة ، إذ لا تقوم صداقة بين أشرار ، بل بين أخيار. و قد تتعرض الصداقة في ظروف الشدة لمشاكل ، و ذلك نتيجة خطإ أو سوء تصرف بعض الأصدقاء في حق غيرهم. فكيف ينبغي التعامل في هذه الحالة ؟ أن يعبر الأول عن تسامحه بتنـبيه المخطـئ بأخطائه ليضمن دوام الصداقة ، وأن يعتذر الثاني ليقدم الدليل على حسن نيته و رغبته في تقوية أواصر الصداقة. فالهدف من التنبيه هو التخلي عن القطيعة و الانتقام ؛ والغاية من الاعتذار عدم التمادي في الخطإ. و بذلك يتم انقاد الصداقة من الزوال .

إذا فالغير هو الصديق ، و من ليس صديقا فهو غريب . و بذلك تكون الصداقة علاقة ضيقة محدودة تحصر الغير في الصديق و تقصي من دائرة الغير كل من ليس صديقا . فالأصدقاء هممن تجمعهم روابط طبيعية أو من قد يتكتلون في تنظيمات و جمعيات و أحزاب و نقابات ... يتعصبون ويتحيزون لبعضهم بل و ينخرطون في صراعات ضد مخالفيهم الرأي و الموقف و المصالح . و بذلك تتعرض العلاقات الإنسانية لأخطار نتيجة التعصب و الكراهية و الإقصاء و التهميش... إذا فإن مفهوم الصداقة لم يتمكن من تجاوز مفهوم الغرابة .

أما أوجست كونت Auguste Comte (1798-1857) فيرى أن تجاوز الغرابة لا يتم في إطار الصداقة بل بالانتماء إلى الإنسانية ، ذلك الموجود الأعظم الذي يشارك فيه كل البشر بدون استثناء : الماضيين ، الحاليين و المستقبليين. فالغير عند كونت ليس هو هذا الفرد أو ذاك بل إنه الإنسانية بأسرها ، و أن كل شخص إنما يحيى بفضل الإنسانية عليه ، و أنه ملزم أخلاقيا أن يحيى من أجل الغير عن طريق نكران الذات و التضحية و الوفاء و التعاون و مساعدة الغير. و بذلك تحل الغيرية محل الأنانية . فالتاريخ يؤكد انتماءنا للإنسانية ، وأننا مدينون لها بكل شيء في حياتنا ، وأن وجودنا لا يستمر إلا بما توفره الإنسانية من خيرات مادية و معنوية . إذا فنحن نعيش بفضل ما يمدنا به الغير، و علينا أن نحيى بدورنا من أجل الغير. و هذا واقع تحقق و يمكن أن يستمر بتجاوز الأنانية المتوحشة و اعتماد الغيرية Altruisme و الإيثار.

لهذا فإن كل شخص بحكم الانتماء إلى الإنسانية ملزم أخلاقيا بالانفتاح على الغير. ليس داخل الجماعة التي هو عضو فيها بل داخل الإنسانية التي ينتمي لها. و بذلك يصير الغير هو المختلف ثقافيا و الذي ينبغي أن نتفاعل معه لإثراء ثقافتنا بالإطلاع على ثقافته ، كما ينبغي عليه هو أيضا أن يستفيد من ثقافتنا ، فيحصل تواصل و تلاقح و تعاون يخرجنا من الانغلاق على الذات و يفتحنا على عولمة تنظمها المبادئ الأخلاقية السامية و القيم الإنسانية الصادقة و التنافس الشريف لا تلك التي تمزقها الحروب و المصالح و التعصب .
hager el fezazi
hager el fezazi

عدد المساهمات : 102
تاريخ التسجيل : 06/12/2009

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى