درس التاريخ
صفحة 1 من اصل 1
درس التاريخ
التــاريــخ الإنسان في الوضع البشري شخص يتفاعل مع الغير و له ماض تُؤثِّرُ أحداثُه الحية في تكوين هويته و تأطير علاقاته و تحديد قيمته و مصيره . فالإنسان إذن كائن تاريخي يتأثر بماضيه و يسعى لمعرفته ، و يستشرف في ضوء ذلك مستقبله و يعمل على تحقيقه . إنه يتأثر بما أنجزه السَّلَف و سوف يؤثر بما يفعله هو في الخَلَف . و يبدو أن كلمة التاريخ تحمل عدة معان : فهي من جهة تدل على الماضي و ما وقع فيه من أحداث ، و من جهة ثانية المعرفة بذلك الماضي ، و من جهة ثالثة قدرة الإنسان على تجاوز الماضي و صنع المستقبل . فما التاريخ ؟ وهل يمكن قيام معرفة علمية بالتاريخ ؟ ومن يتولى قراءة التاريخ : المؤرخ أم الفيلسوف ؟ و كيف يتحرك التاريخ ؟ و ما هي القوة الفاعلة و المحركة للتاريخ ؟
1) المعرفة التاريخية :
يرى المفكر المغربي المعاصر عبد الله العروي أن قراءة التاريخ عمل مشترك بين المؤرخ و الفيلسوف ، فكيف ينظر كل منهما للتاريخ ؟ إن المؤرخ يهتم بالأحداث العابرة ( هذه الحرب أو تلك لا الحرب بصفة عامة ، كالحرب العلمية الأولى مثلا ) ، أما الفيلسوف فينشغل بالبحث عن القوانين الدائمة التي تحكم تاريخ البشرية ككل ( القانون العام الذي يجعل البشر يتحاربون مثلا ) . فالمؤرخ يبحث عن تسلسل و تعاقب الأحداث في زمان و مكان معينين ؛ أما الفيلسوف فيتساءل عن القانون العام الذي يحكم وقوع الأحداث . لكن الاختلاف بينها لا يعني تعارضهما بل تقاطعهما و تكاملهما . فكل طرف يستفيد من عمل الآخر : فالمؤرخ يحتاج إلى نظرة فلسفية توجه عمله وتمكنه من فهم الحدث الجزئي في إطاره العام ، و الفيلسوف يتوقف على معطيات تاريخية تسند نظريته لتأكيد مصداقيتها . ويؤكد هذه الفكرة الفيلسوف و عالم الرياضيات الفرنسي دالمبير jean le rond D’ALEMBERT (1717-1783) بقوله : ‘‘ أن علم التاريخ عندما لا يكون مُضَاءً بنور الفلسفة يكون في مُؤَخّْرة المعارف الإنسانية ’’.
التاريخ أحداث مضت و لم يعد لها وجود ، لكن أثرها لا زال مستمرا يفعل فعله في الحاضر و يمتد نحو المستقبل . فالتاريخ إذا هو ماضي انقضى و ولى و لم يعد موجودا كأحداث و إنما كآثار، و المعرفة التاريخية هي الوعي بهذا الماضي . فكيف يمكن استعادة و استرجاع هذا الماضي ؟
يمكن استعادة الماضي انطلاقا من المصادر التاريخية (وثائق و آثار ) التي خَلَّفَها السابقون كشاهد على ما حدث لهم و ما أنجزوه . لكن الوثائق ليست تاريخا و إنما شاهد عليه .‘‘ فالتاريخ يُصْنَعُ بالوثائق ، و حيث لا وثائق لا تاريخ ’’. فكيف يستعيد المؤرخ الوقائع التاريخية من الوثائق ؟ ليست المعرفة التاريخية جاهزة في الوثائق ، و إنما هي عملية بناء منهجي ينجزها المؤرخ انطلاقا من وثائق و اعتمادا على منهج و تأسيسا على موقف يلتزم به المؤرخ . لكن عملية البناء هاته تعترضها عدة عوائق . فما هي هذه العوائق ؟ وكيف يكمن تجاوزها ؟
ثمة صنفان من العوائق : عوائق تتعلق بالمادة التاريخية أي الوثائق ، و عوائق تتعلق بذاتية المؤرخ . فالوثائق ليست تسجيلا كاملا لما حدث ، و أن بعض ما وقع لم يتم تدوينه . و أن بعض الوثائق نَقَلَتْ بعض ما وقع و سكتت عن بعض و شوَّهت بعضها الآخر و أن بعضها كان اختلاقا لأحداث و ربما نسبت أدوارا تاريخية لأشخاص لم يكن لها دور . و هذا ما يجعل الوثائق ليست تسجيلا أمينا و صادقا و موضوعيا. فالوثائق لا تخلو من مواقف أصحابها ، بحيث تكون تعبيرا عن موقف لا وصفا لما وقع . و أن الوثائق حول موضوع واحد تكون متعارضة و متضاربة . وأن الوثيقة الواحدة قد تقرأ بحسب مواقف المؤرخين عدة قراءات مختلفة ، و قد يعاد قراءتها في ضوء اكتشاف وثائق جديدة أو تلبية لحاجات العصر (القراءة الوطنية – القراءة الاستعمارية ....) إضافة إلى كل هذا فإن بعض الوثائق تعرضت للتلف و الضياع ، و أن بعضها ليس في متناول المؤرخين ... أما العوائق المتعلقة بذاتية المؤرخ فتتجلى في كون المؤرخ ذاتٌ لها إيديولوجيتها (خلفياتها الحضارية – معتقدها الديني و موقفها المذهبي – و توجهاتها السياسية و الاقتصادية –انتماؤها الطبقي – وانتسابها الوطني - تحيزها العرقي – ميولاتها العاطفية....) . و يقترح الفيلسوف الفرنسي بول ريكور paul RICOEAR (1913-2005) لتجاوز هذه العوائق اعتماد منهج علمي يقوم على جملة خطوات وهي : الملاحظة و المساءلة والاستنطاق و إعطاء الوثائق دلالات و بالتالي إعادة بناء الواقعة التاريخية . إن اعتماد هذا المنهج يمكن المؤرخ من فحص الوثائق و التأكد من صدقيتها و الربط فيما بينها و ملء الفراغ الذي تتركه و إضفاء المعقولية عليها . و إذا كان المؤرخ ينتمي للحاضر فهل يمكنه بواسطة هذا المنهج معرفة الماضي كما يعرف الحاضر ؟ يجيب عالم الاجتماع الفرنسي أرييل آرونARON Ariel (1905-1983) إن المعرفة بالماضي تختلف عن المعرفة بالحاضر . فالمعرفة بالحاضر هي معرفة تلقائية عفوية بما نعيشه أي بالعالم المحيط بنا ، أما المعرفة بالماضي فهي معرفة غير مباشرة تقتضي جهدا منهجيا لإعادة بناء ما لم نعشه أي عالم الذين عاشوا قبلنا . إذن فعلمية الدراسات التاريخية هي نتيجة ممارسة منهجية يماثل فيها عملُ المؤرخ عملَ الفيزيائي .
إن اعتماد هذا المنهج يمكن فعلا من تجاوز العديد من الصعوبات لا كلها ، الأمر الذي يُبْقِي المعرفة التاريخية معرفة نسبية و ناقصة .
لم تكتف المعرفة التاريخية بفهم الماضي البشري بل سعت أيضا إلى التساؤل عن إيقاع حركة التاريخ ، فكيف يتحرك التاريخ ؟
2)- التاريخ و فكرة التقدم :
الغاية من معرفة الماضي هي المعرفة بالمنطق الذي يتحرك وفقه التاريخ ، و ذلك لاستشراف المستقبل . يعتقد البعض أن التاريخ تقدم ، فما التقدم ؟ وهل التقدم هو القانون الوحيد الذي يحكم حركة التاريخ ؟
التقدم حركة نمو متزايد يَفْضُلُ فيه اللاحقُ السابقَ و يزيدُ عليه ، و يسير نحو بلوغ الكمال . إنه مفهوم يفترض انسجام و تجانس حركية التاريخ ، يستبعد الصدفة و المفاجأة ، و ينهض على الحتمية التي يمكن في ضوئها توقع المستقبل .
يربط كارل ماركس (1817-1883) تاريخ الإنسان بعملية الإنتاج ، و الإنسان إذ ينتج حاجاته ينتج ذاته و شروط حياته و بالتالي يصنع تاريخه . و لقد عرف الإنسان حتى الآن تعاقب 5 أنماط إنتاج ، و هي : نمط الإنتاج المشاعي البدائي – نمط الإنتاج العبودي – نمط الإنتاج الإقطاعي – نمط الإنتاج الرأسمالي و أخيرا نمط الإنتاج الاشتراكي . و أن الانتقال من نمط إنتاج إلى النمط الذي يعقبه يتم نتيجة تناقض علاقات الإنتاج و قوى الإنتاج ، الذي يُعَبِّر عنه الصراعُ الطبقي . و أن هذا الانتقال تم تدريجيا و وفق شروط موضوعية نحو الكمال ، بحيث يكون فيه اللاحق أرقى من السابق ، و أن الآتي سوف يكون بالضرورة أسمى . و عليه فإن القول بالتقدم يعني أن للتاريخ نهاية ، و نهاية التاريخ عند الماركسية هي قيام نمط إنتاج غير طبقي هو النظام الشيوعي . يفهم من هذا أن التقدم عند ماركس هو منطق التاريخ .
غير أن مفهوم التقدم تعرض على يد نظريات فلسفية لعدة انتقادات ، مادام أن التاريخ نفسه يقدم الدليل على أن مجتمعات شهدت تأخرا (المجتمعات الإسلامية ) ، و أخرى لا زالت تعرف ركودا ( المجتمعات البدائية حاليا ) ، و أن حضارات تفككت و انهارت و لم يعد لها وجود . و لقد عرف التاريخ أيضا مفاجآت و اضطرابات و أحداثا عرضية إذ لم يحدث فيه ما كان متوقعا ، و حدث فيه ما لم يكن منتظرا . إذا فالتاريخ يعرف سخونة و برودة ، و أن حركته ليست منتظمة و لا محددة سلفا ، و لا تسير بالضرورة نحو الكمال ، و أن ليس للتاريخ نهاية محددة . و عليه فلا توجد حتمية مطلقة في التاريخ . و يؤكد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984) هذا بقوله : ‘‘ إن ما يجري الآن ليس بالضرورة أفضل مما كان يجري من قبل و أجود منه إنشاء أو وضوحا .’’ . و يؤكد غرامشي (1891-1937) نفس الشيء بقوله : ‘‘ الصيرورة مفهوم فلسفي يمكن أن يخلو من معنى التقدم . إن التقدم مرتبط بالمفهوم الساذج للتطور .’’
و لذلك يرى البعض أن التقدم مفهوم إيديولوجي نادت به و تحمست له الطبقة البورجوازية ، و رأت فيه مصلحتها و علقت عليه آمالها لتنزع عن الماضي بهاءه و مَجْدَهُ ، و تقضي على تلك الأسطورة التي تقول بماض ذهبي عرفته الإنسانية ، و عليها أن تَحِنَّ إليه حنينا متواصلا ، و أهم الانتقادات الموجهة لفكرة التقدم هي :
التقدم فكرة معيارية تحمل حكما تقديريا ، تعبر عن رغبة الطبقة البورجوازية ، و ادعاء انتصارها بأن المجتمع الحالي أفضل من السابق . إنه مفهوم ذو نزعة تبريرية تخلط بين الرغبة و الواقع .
إن فكرة التقدم ليست عامة و كلية صالحة لتفسير كل حركة التاريخ الإنساني .
إنه مفهوم ذو صلاحية قطاعية لا يمكن أن ينسحب على التاريخ برمته : لا يهم كل المجتمعات ، و لا كل القطاعات . يقول ماو تسي تانج (1893- 1976) : ‘‘ ليس في العالم شيء يتطور دائما بطريقة متكافئة ’’.
إنه مفهوم لا ينفصل عن فكرة نهاية التاريخ ، يفترض غائية و حتمية يمكن في ضوئهما توقع الأحداث بكل دقة و لا تترك للصدفة أو المفاجأة مجالا .
إنه مفهوم يهمل الجزئيات لصالح وفائدة الكل .
غير أن مشروعية فكرة التقدم توجد في كونها موجهة لطموح الإنسانية في سبيل تجاوز مظاهر التخلف .
و في نفس السياق يؤكد الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو- بونتي (1908-1961) أن منطق التاريخ (التقدم ) ليس سوى إمكانية ضمن إمكانيات أخرى . فلقد عرف التاريخ بالإضافة إلى التقدم تأخر مجتمعات و ركود أخرى و انهيار ثالثة .... وأن قطاعات اجتماعية تقدمت في حين أن قطاعات أخرى عرفت ركودا أو تراجعا ، و أن أحداثا حصلت فجأة ، الشيء الذي يدل على أن التاريخ تتخلله انحرافات و قفزات و مفاجآت و ركود و تراجعات و تخلف و انحطاط أي أن حركة التاريخ ليست محددة سلفا و أن ليس للتاريخ هدف معين يسير نحوه . إذا فحركة التاريخ غير متجانسة أي عرضية ، لكنها لا تتعارض مع منطق التاريخ و لا تلغيه . و لذلك صار منطق التاريخ (أي فكرة التقدم ) مجرد إمكانية ضمن إمكانيات أخرى . و هذا ما يجعل حركة التاريخ سيرورة مفتوحة على كل الاحتمالات .
3 )- دور الإنسان في التاريخ :
تقودنا فكرة حركية التاريخ إلى طرح السؤال التالي : أي دور يقوم به الإنسان في التاريخ ؟
يقارب الفيلسوف المثالي الألماني هيجلHEGEL (1770-1831) هذه الإشكالية من خلال نقده للتصور المتداول و المألوف للتاريخ الذي يقول أن أبطال و عظماء التاريخ (رجال الدولة و السياسة و رجال الاقتصاد و الأعمال و القادة العسكريون و العباقرة من العلماء و الأدباء و الفنانين ...) هم الفاعلون الحقيقيون في التاريخ . غير أن هيجل يرى أن التاريخ ليس أحداثا متعاقبة بل إنه حركة روح موضوعية كلية . فهذه الروح نشيطة توجد في صيرورة تفصح عن ذاتها في أفكار يعتنقها العظماء ، كل في مجاله و في المرحلة التاريخية التي يوجدون فيها ، و يعملون على انجازها بحيث أن اللاحق يواصل ما انتهى إليه السابق . و عليه فالتاريخ هو تاريخ أفكار لا تاريخ أشخاص ، فالأشخاص يتساقطون مع الزمن ، أما الأفكار فتواصل تقدمها و نموها . و ليس الأشخاص سوى أدوات و وسائل في يد الروح تسخرهم في صيرورتها نحو المطلق .
إذا فالتاريخ ماكر يظهر لنا أن الأبطال هم صناع التاريخ لكنهم في الحقيقة مجرد أدوات مسخرة . فالأشخاص مثلا ليسوا أحرارا إلا بالانتماء لفكرة الحرية و النضال من أجلها . و هكذا كل واحد من المناضلين يكافح و يعتقل و يُعَذَّبُ و يموت من أجلها ، و يواصل الجيل الذي بعده العمل من أجل نموها . فهم يتساقطون لكنها هي تستمر نامية مع الزمن .
أما جان بول سارتر( 1905-1980) الفيلسوف الوجودي الفرنسي فيعارض التصور الهيجيلي مؤكدا أن ليس للتاريخ من فاعل ما عدا الإنسان ، فالإنسان ليس أداة في يد روح كونية لا وجود لها . كما أنه ينتقد التصور الماركسي الذي يؤكد أن الإنسان في فاعليته التاريخية محكوم بشروط موضوعية ، الأمر الذي يجعل منه آلة في يد قوى غير بشرية . يقول سارتر : ‘‘ الإنسان هو الكائن الذي يملك إمكانية صنع التاريخ ’’. ليس الإنسان أداة بل فاعلا تاريخيا له مشروع ذاتي يسعى بوعي و حرية لانجازه . فتاريخية الإنسان لا في كونه يحمل ماض حي بل في كونه يصبو نحو المستقبل عن طريق الممارسة . فالممارسة هي فعل الذات الواعي الحر القصدي و الخلاق لتحقيق مشروعها الذاتي . و الممارسة نفي و إبداع : نفي و تجاوز الوضعية التي يوجد فيها ، و إبداع ذاته كمشروع مستقبلي. فالإنسان ليس نتيجة الظروف ، بل إن الظروف نفسها من إنتاجه ، إنه الفاعل الحق للتاريخ . يقول سارتر : ‘‘ إن الأساسي ليس هو ما صُنِعَ بالإنسان ، بل صَنَعَهُ هو بما صُنِعَ به ...أما ما يَصْنَعُهُ الإنسانُ فهو التاريخ ذاته ، هو التجاوز الواقعي لهذه البنيات عن طريق ممارسة جامعة . ’’
لم يبق التاريخ مع سارتر مجالا للضرورة ، بل مجالا للحرية يحقق الإنسان فيه ذاته على الدوام كمشروع . و عليه فتاريخية الإنسان لا في كونه مشروطا بأحداث الماضي فقط ، وإنما أيضا في قدرته على صنع ماهيته بأن يقذف بنفسه نحو المستقبل كمشروع ذاتي .
1) المعرفة التاريخية :
يرى المفكر المغربي المعاصر عبد الله العروي أن قراءة التاريخ عمل مشترك بين المؤرخ و الفيلسوف ، فكيف ينظر كل منهما للتاريخ ؟ إن المؤرخ يهتم بالأحداث العابرة ( هذه الحرب أو تلك لا الحرب بصفة عامة ، كالحرب العلمية الأولى مثلا ) ، أما الفيلسوف فينشغل بالبحث عن القوانين الدائمة التي تحكم تاريخ البشرية ككل ( القانون العام الذي يجعل البشر يتحاربون مثلا ) . فالمؤرخ يبحث عن تسلسل و تعاقب الأحداث في زمان و مكان معينين ؛ أما الفيلسوف فيتساءل عن القانون العام الذي يحكم وقوع الأحداث . لكن الاختلاف بينها لا يعني تعارضهما بل تقاطعهما و تكاملهما . فكل طرف يستفيد من عمل الآخر : فالمؤرخ يحتاج إلى نظرة فلسفية توجه عمله وتمكنه من فهم الحدث الجزئي في إطاره العام ، و الفيلسوف يتوقف على معطيات تاريخية تسند نظريته لتأكيد مصداقيتها . ويؤكد هذه الفكرة الفيلسوف و عالم الرياضيات الفرنسي دالمبير jean le rond D’ALEMBERT (1717-1783) بقوله : ‘‘ أن علم التاريخ عندما لا يكون مُضَاءً بنور الفلسفة يكون في مُؤَخّْرة المعارف الإنسانية ’’.
التاريخ أحداث مضت و لم يعد لها وجود ، لكن أثرها لا زال مستمرا يفعل فعله في الحاضر و يمتد نحو المستقبل . فالتاريخ إذا هو ماضي انقضى و ولى و لم يعد موجودا كأحداث و إنما كآثار، و المعرفة التاريخية هي الوعي بهذا الماضي . فكيف يمكن استعادة و استرجاع هذا الماضي ؟
يمكن استعادة الماضي انطلاقا من المصادر التاريخية (وثائق و آثار ) التي خَلَّفَها السابقون كشاهد على ما حدث لهم و ما أنجزوه . لكن الوثائق ليست تاريخا و إنما شاهد عليه .‘‘ فالتاريخ يُصْنَعُ بالوثائق ، و حيث لا وثائق لا تاريخ ’’. فكيف يستعيد المؤرخ الوقائع التاريخية من الوثائق ؟ ليست المعرفة التاريخية جاهزة في الوثائق ، و إنما هي عملية بناء منهجي ينجزها المؤرخ انطلاقا من وثائق و اعتمادا على منهج و تأسيسا على موقف يلتزم به المؤرخ . لكن عملية البناء هاته تعترضها عدة عوائق . فما هي هذه العوائق ؟ وكيف يكمن تجاوزها ؟
ثمة صنفان من العوائق : عوائق تتعلق بالمادة التاريخية أي الوثائق ، و عوائق تتعلق بذاتية المؤرخ . فالوثائق ليست تسجيلا كاملا لما حدث ، و أن بعض ما وقع لم يتم تدوينه . و أن بعض الوثائق نَقَلَتْ بعض ما وقع و سكتت عن بعض و شوَّهت بعضها الآخر و أن بعضها كان اختلاقا لأحداث و ربما نسبت أدوارا تاريخية لأشخاص لم يكن لها دور . و هذا ما يجعل الوثائق ليست تسجيلا أمينا و صادقا و موضوعيا. فالوثائق لا تخلو من مواقف أصحابها ، بحيث تكون تعبيرا عن موقف لا وصفا لما وقع . و أن الوثائق حول موضوع واحد تكون متعارضة و متضاربة . وأن الوثيقة الواحدة قد تقرأ بحسب مواقف المؤرخين عدة قراءات مختلفة ، و قد يعاد قراءتها في ضوء اكتشاف وثائق جديدة أو تلبية لحاجات العصر (القراءة الوطنية – القراءة الاستعمارية ....) إضافة إلى كل هذا فإن بعض الوثائق تعرضت للتلف و الضياع ، و أن بعضها ليس في متناول المؤرخين ... أما العوائق المتعلقة بذاتية المؤرخ فتتجلى في كون المؤرخ ذاتٌ لها إيديولوجيتها (خلفياتها الحضارية – معتقدها الديني و موقفها المذهبي – و توجهاتها السياسية و الاقتصادية –انتماؤها الطبقي – وانتسابها الوطني - تحيزها العرقي – ميولاتها العاطفية....) . و يقترح الفيلسوف الفرنسي بول ريكور paul RICOEAR (1913-2005) لتجاوز هذه العوائق اعتماد منهج علمي يقوم على جملة خطوات وهي : الملاحظة و المساءلة والاستنطاق و إعطاء الوثائق دلالات و بالتالي إعادة بناء الواقعة التاريخية . إن اعتماد هذا المنهج يمكن المؤرخ من فحص الوثائق و التأكد من صدقيتها و الربط فيما بينها و ملء الفراغ الذي تتركه و إضفاء المعقولية عليها . و إذا كان المؤرخ ينتمي للحاضر فهل يمكنه بواسطة هذا المنهج معرفة الماضي كما يعرف الحاضر ؟ يجيب عالم الاجتماع الفرنسي أرييل آرونARON Ariel (1905-1983) إن المعرفة بالماضي تختلف عن المعرفة بالحاضر . فالمعرفة بالحاضر هي معرفة تلقائية عفوية بما نعيشه أي بالعالم المحيط بنا ، أما المعرفة بالماضي فهي معرفة غير مباشرة تقتضي جهدا منهجيا لإعادة بناء ما لم نعشه أي عالم الذين عاشوا قبلنا . إذن فعلمية الدراسات التاريخية هي نتيجة ممارسة منهجية يماثل فيها عملُ المؤرخ عملَ الفيزيائي .
إن اعتماد هذا المنهج يمكن فعلا من تجاوز العديد من الصعوبات لا كلها ، الأمر الذي يُبْقِي المعرفة التاريخية معرفة نسبية و ناقصة .
لم تكتف المعرفة التاريخية بفهم الماضي البشري بل سعت أيضا إلى التساؤل عن إيقاع حركة التاريخ ، فكيف يتحرك التاريخ ؟
2)- التاريخ و فكرة التقدم :
الغاية من معرفة الماضي هي المعرفة بالمنطق الذي يتحرك وفقه التاريخ ، و ذلك لاستشراف المستقبل . يعتقد البعض أن التاريخ تقدم ، فما التقدم ؟ وهل التقدم هو القانون الوحيد الذي يحكم حركة التاريخ ؟
التقدم حركة نمو متزايد يَفْضُلُ فيه اللاحقُ السابقَ و يزيدُ عليه ، و يسير نحو بلوغ الكمال . إنه مفهوم يفترض انسجام و تجانس حركية التاريخ ، يستبعد الصدفة و المفاجأة ، و ينهض على الحتمية التي يمكن في ضوئها توقع المستقبل .
يربط كارل ماركس (1817-1883) تاريخ الإنسان بعملية الإنتاج ، و الإنسان إذ ينتج حاجاته ينتج ذاته و شروط حياته و بالتالي يصنع تاريخه . و لقد عرف الإنسان حتى الآن تعاقب 5 أنماط إنتاج ، و هي : نمط الإنتاج المشاعي البدائي – نمط الإنتاج العبودي – نمط الإنتاج الإقطاعي – نمط الإنتاج الرأسمالي و أخيرا نمط الإنتاج الاشتراكي . و أن الانتقال من نمط إنتاج إلى النمط الذي يعقبه يتم نتيجة تناقض علاقات الإنتاج و قوى الإنتاج ، الذي يُعَبِّر عنه الصراعُ الطبقي . و أن هذا الانتقال تم تدريجيا و وفق شروط موضوعية نحو الكمال ، بحيث يكون فيه اللاحق أرقى من السابق ، و أن الآتي سوف يكون بالضرورة أسمى . و عليه فإن القول بالتقدم يعني أن للتاريخ نهاية ، و نهاية التاريخ عند الماركسية هي قيام نمط إنتاج غير طبقي هو النظام الشيوعي . يفهم من هذا أن التقدم عند ماركس هو منطق التاريخ .
غير أن مفهوم التقدم تعرض على يد نظريات فلسفية لعدة انتقادات ، مادام أن التاريخ نفسه يقدم الدليل على أن مجتمعات شهدت تأخرا (المجتمعات الإسلامية ) ، و أخرى لا زالت تعرف ركودا ( المجتمعات البدائية حاليا ) ، و أن حضارات تفككت و انهارت و لم يعد لها وجود . و لقد عرف التاريخ أيضا مفاجآت و اضطرابات و أحداثا عرضية إذ لم يحدث فيه ما كان متوقعا ، و حدث فيه ما لم يكن منتظرا . إذا فالتاريخ يعرف سخونة و برودة ، و أن حركته ليست منتظمة و لا محددة سلفا ، و لا تسير بالضرورة نحو الكمال ، و أن ليس للتاريخ نهاية محددة . و عليه فلا توجد حتمية مطلقة في التاريخ . و يؤكد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984) هذا بقوله : ‘‘ إن ما يجري الآن ليس بالضرورة أفضل مما كان يجري من قبل و أجود منه إنشاء أو وضوحا .’’ . و يؤكد غرامشي (1891-1937) نفس الشيء بقوله : ‘‘ الصيرورة مفهوم فلسفي يمكن أن يخلو من معنى التقدم . إن التقدم مرتبط بالمفهوم الساذج للتطور .’’
و لذلك يرى البعض أن التقدم مفهوم إيديولوجي نادت به و تحمست له الطبقة البورجوازية ، و رأت فيه مصلحتها و علقت عليه آمالها لتنزع عن الماضي بهاءه و مَجْدَهُ ، و تقضي على تلك الأسطورة التي تقول بماض ذهبي عرفته الإنسانية ، و عليها أن تَحِنَّ إليه حنينا متواصلا ، و أهم الانتقادات الموجهة لفكرة التقدم هي :
التقدم فكرة معيارية تحمل حكما تقديريا ، تعبر عن رغبة الطبقة البورجوازية ، و ادعاء انتصارها بأن المجتمع الحالي أفضل من السابق . إنه مفهوم ذو نزعة تبريرية تخلط بين الرغبة و الواقع .
إن فكرة التقدم ليست عامة و كلية صالحة لتفسير كل حركة التاريخ الإنساني .
إنه مفهوم ذو صلاحية قطاعية لا يمكن أن ينسحب على التاريخ برمته : لا يهم كل المجتمعات ، و لا كل القطاعات . يقول ماو تسي تانج (1893- 1976) : ‘‘ ليس في العالم شيء يتطور دائما بطريقة متكافئة ’’.
إنه مفهوم لا ينفصل عن فكرة نهاية التاريخ ، يفترض غائية و حتمية يمكن في ضوئهما توقع الأحداث بكل دقة و لا تترك للصدفة أو المفاجأة مجالا .
إنه مفهوم يهمل الجزئيات لصالح وفائدة الكل .
غير أن مشروعية فكرة التقدم توجد في كونها موجهة لطموح الإنسانية في سبيل تجاوز مظاهر التخلف .
و في نفس السياق يؤكد الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو- بونتي (1908-1961) أن منطق التاريخ (التقدم ) ليس سوى إمكانية ضمن إمكانيات أخرى . فلقد عرف التاريخ بالإضافة إلى التقدم تأخر مجتمعات و ركود أخرى و انهيار ثالثة .... وأن قطاعات اجتماعية تقدمت في حين أن قطاعات أخرى عرفت ركودا أو تراجعا ، و أن أحداثا حصلت فجأة ، الشيء الذي يدل على أن التاريخ تتخلله انحرافات و قفزات و مفاجآت و ركود و تراجعات و تخلف و انحطاط أي أن حركة التاريخ ليست محددة سلفا و أن ليس للتاريخ هدف معين يسير نحوه . إذا فحركة التاريخ غير متجانسة أي عرضية ، لكنها لا تتعارض مع منطق التاريخ و لا تلغيه . و لذلك صار منطق التاريخ (أي فكرة التقدم ) مجرد إمكانية ضمن إمكانيات أخرى . و هذا ما يجعل حركة التاريخ سيرورة مفتوحة على كل الاحتمالات .
3 )- دور الإنسان في التاريخ :
تقودنا فكرة حركية التاريخ إلى طرح السؤال التالي : أي دور يقوم به الإنسان في التاريخ ؟
يقارب الفيلسوف المثالي الألماني هيجلHEGEL (1770-1831) هذه الإشكالية من خلال نقده للتصور المتداول و المألوف للتاريخ الذي يقول أن أبطال و عظماء التاريخ (رجال الدولة و السياسة و رجال الاقتصاد و الأعمال و القادة العسكريون و العباقرة من العلماء و الأدباء و الفنانين ...) هم الفاعلون الحقيقيون في التاريخ . غير أن هيجل يرى أن التاريخ ليس أحداثا متعاقبة بل إنه حركة روح موضوعية كلية . فهذه الروح نشيطة توجد في صيرورة تفصح عن ذاتها في أفكار يعتنقها العظماء ، كل في مجاله و في المرحلة التاريخية التي يوجدون فيها ، و يعملون على انجازها بحيث أن اللاحق يواصل ما انتهى إليه السابق . و عليه فالتاريخ هو تاريخ أفكار لا تاريخ أشخاص ، فالأشخاص يتساقطون مع الزمن ، أما الأفكار فتواصل تقدمها و نموها . و ليس الأشخاص سوى أدوات و وسائل في يد الروح تسخرهم في صيرورتها نحو المطلق .
إذا فالتاريخ ماكر يظهر لنا أن الأبطال هم صناع التاريخ لكنهم في الحقيقة مجرد أدوات مسخرة . فالأشخاص مثلا ليسوا أحرارا إلا بالانتماء لفكرة الحرية و النضال من أجلها . و هكذا كل واحد من المناضلين يكافح و يعتقل و يُعَذَّبُ و يموت من أجلها ، و يواصل الجيل الذي بعده العمل من أجل نموها . فهم يتساقطون لكنها هي تستمر نامية مع الزمن .
أما جان بول سارتر( 1905-1980) الفيلسوف الوجودي الفرنسي فيعارض التصور الهيجيلي مؤكدا أن ليس للتاريخ من فاعل ما عدا الإنسان ، فالإنسان ليس أداة في يد روح كونية لا وجود لها . كما أنه ينتقد التصور الماركسي الذي يؤكد أن الإنسان في فاعليته التاريخية محكوم بشروط موضوعية ، الأمر الذي يجعل منه آلة في يد قوى غير بشرية . يقول سارتر : ‘‘ الإنسان هو الكائن الذي يملك إمكانية صنع التاريخ ’’. ليس الإنسان أداة بل فاعلا تاريخيا له مشروع ذاتي يسعى بوعي و حرية لانجازه . فتاريخية الإنسان لا في كونه يحمل ماض حي بل في كونه يصبو نحو المستقبل عن طريق الممارسة . فالممارسة هي فعل الذات الواعي الحر القصدي و الخلاق لتحقيق مشروعها الذاتي . و الممارسة نفي و إبداع : نفي و تجاوز الوضعية التي يوجد فيها ، و إبداع ذاته كمشروع مستقبلي. فالإنسان ليس نتيجة الظروف ، بل إن الظروف نفسها من إنتاجه ، إنه الفاعل الحق للتاريخ . يقول سارتر : ‘‘ إن الأساسي ليس هو ما صُنِعَ بالإنسان ، بل صَنَعَهُ هو بما صُنِعَ به ...أما ما يَصْنَعُهُ الإنسانُ فهو التاريخ ذاته ، هو التجاوز الواقعي لهذه البنيات عن طريق ممارسة جامعة . ’’
لم يبق التاريخ مع سارتر مجالا للضرورة ، بل مجالا للحرية يحقق الإنسان فيه ذاته على الدوام كمشروع . و عليه فتاريخية الإنسان لا في كونه مشروطا بأحداث الماضي فقط ، وإنما أيضا في قدرته على صنع ماهيته بأن يقذف بنفسه نحو المستقبل كمشروع ذاتي .
hager el fezazi- عدد المساهمات : 102
تاريخ التسجيل : 06/12/2009
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى