منتدى الفلسفة ـ المدرسة العليا للأساتذة - فــــــــاس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

العلوم الإنسانية

اذهب الى الأسفل

العلوم الإنسانية Empty العلوم الإنسانية

مُساهمة  hager el fezazi الخميس مارس 18, 2010 2:04 pm

اعتقد المفكرون في القرن 19 ، نتيجة انبهارهم بما حققته العلوم الطبيعية بفضل المنهج التجريبي من نجاح في فهم الظواهر الطبيعية والتحكم فيها و استغلالها ، أن نقل نفس المنهج إلى دراسة الإنسان يحقق معرفة موضوعية بالظواهر الإنسانية تُمَكِّـن من التحكم في دوافعه و الارتقاء بملكاته و إمكانياته . و بذلك كانت نشأة العلوم الإنسانية التي سوف يتحول معها الإنسان من ذات تفكر إلى موضوع معرفة علمية . و لقد ساد ، قبل ذلك ، اعتقاد أن الإنسان ذاتٌ و لا يمكن معاملته كموضوع ، لكن مع قيام العلوم الإنسانية صار الإنسانُ موضوعَ أبحاثٍ علمية . فما العلوم الإنسانية ؟ و هل توفقت في تناول الظواهر الإنسانية بطريقة موضوعية ؟ و هل هي علوم تعتمد منهج التفسير أم منهج الفهم ؟ و هل علميتها في الاحتذاء بنموذج العلوم الطبيعية أم في بناء نموذجها العلمي الخاص ؟






العلوم الإنسانية هي مجموع العلوم التي تتناول الإنسان بمنهجية موضوعية ، كل علم تخصص في دراسة بُعْدٍ من أبعاده : فعلم النفس اهتم بدراسة العمليات العقلية و الوجدانية ؛ و علم الاجتماع تناول العلاقات و المؤسسات اجتماعية المؤطرة لسلوك الإنسان . أما علم التاريخ فعالج تأثير أحداث الماضي في حياة الإنسان . إنها علوم لا علم واحد ، وأنها اتسعت اليوم لتشمل فروعا جديدة . و لقد اقترن ميلاد العلوم الإنسانية في القرن 19 بالمشروع الوضعي القاضي بالتخلص من الخطاب الفلسفي التأملي حول الإنسان و دراسته دراسة موضوعية عن طريق تطبيق النماذج التجريبية التي أكدت نجاحها في العلوم الطبيعية . وفي هذا الصدد اعتبرت الظواهر الإنسانية " أشياء " أي وقائع خارجية مستقلة عن ذات الباحث يمكن تناولها بنزاهة و حياد و موضوعية . و هذا ما يبينه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم Emile DURKHEIM(1858-1917) : ‘‘ علينا أن نعتبر الظواهر الاجتماعية في ذاتها كظواهر مستقلة عن الذوات الواعية التي تتمثلها ، علينا أن ندرسها من الخارج بوصفها أشياء خارج الذات ، و ذلك لأنها تُعْطانا من الخارج باعتبارها أشياء .’’

فدراسة الظاهرة الإنسانية ، سوء كانت اجتماعية أو نفسية أو تاريخية ، كشيء مستقل عن الذات تحقق الموضوعية للأبحاث كشرط ضروري للعلمية . و الموضوعية هي مقاربة الظاهـرة بحياد ونزاهة بعيدا عن الميول الذاتية و المواقف الإيديولوجية . غير أن الموضوعية اصطدمت بجملة من الصعوبات و طرحت عدة إشكالات . فتناول الظاهرة الإنسانية كشيء ينفي عنها ما تحمله من معاني وقيم و ما تقصده من غايات و بالتالي يفقدها خصوصيتها و يبعد العلوم عن تكون إنسانية . يقول المحلل النفسي الأمريكي من أصل ألماني إريك فرومEric FROMM (1900-1980) : ‘‘ تسمى هذه الطريقة لفهم الإنسان علما ...لكنه ليس إنسانيا ’’.

1)- موضعة الظاهرة الإنسانية :

فما الظاهرة الإنسانية ؟ وما هي صعوبات موضعتها ؟ الظاهرة الإنسانية هي كل ما يصدر عن الإنسان من سلوكات نفسية أو تصرفات اجتماعية أو أفعال تاريخية تتميز بكونها :

- واعية يتدخل فيها الفكر .
- قصدية لها أهداف وغايات و تحمل معان ، و ليست سلوكا آليا غريزيا .
- حرة تصدر عن إرادة تختار أفعالها .
- فريدة لا تتكرر ، تحدث مرة ثم تمضي ، وهذا ما يجعل التعميم متعذرا .
- تعبيرية لها ظاهر يعبر عن باطن .
- تاريخية تتغير مع تغير الزمان و المكان .
- معقدة تتداخل فيها كل الأبعاد النفسية و الاجتماعية و التاريخية ، لدرجة يتعذر معها عزل بُعْدٍ عن باقي الأبعاد لدراسته باستقلال عن غيره . يقول الفيلسوف و عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر إدغار موران Edgar MORIN : ‘‘ تقوم مأساة العلوم الاجتماعية في استحالة عزل الموضوع المبحوث عنه بصورة تجريبية .’’
ويرى عالم النفس السويسري جان بياجي Jean PIAGET(1896-1980) أن مشكلة العلوم الإنسانية ليست في تعقد ظواهرها و إنما أيضا في التداخل بين الذات و الموضوع . يقول جان بياجي : ‘‘ تخلق وضعية التداخل بين الذات و الموضوع في العلوم الإنسانية صعوبات إضافية مقارنة بالعلوم الطبيعية حيث أصبح من المعتاد الفصل بين الذات و الموضوع ’’ . فالذات ( الإنسان ) في العلوم الفيزيائية الدقيقة غير الموضوع ( الطبيعة ) . أما في العلوم الإنسانية فالذات الباحثة هي عينها الموضوعُ المدروس ؛ فالباحث ذاتٌ كما أن الموضوع هو الآخر ذاتٌ . و أن ذات الباحث تتدخل بميولاتها الشخصية و قناعاتها الأيديولوجية في ذات الموضوع فتُشَوِّهُهَا ؛ و كذلك تتدخل ذاتُ الموضوع بالتَّشْوِيش على ذات الباحث وتمنعها من رؤية الظاهرة كما هي . إن الباحث في العلوم الإنسانية لا يستطيع أن يقف حيال الظواهر الإنسانية موقف اللامبالاة ، لأنها ليست أشياء ، بل هي ظاهرة تهم الإنسان و تتصل بصميم كيانه . و لو وَعَى الإنسانُ أنه موضوع دراسة لأفضى وعيه إلى تغيير مسار البحث بصورة غير متوقعة . يقول كلود لفي ستروس : ‘‘ إن الوعي هو العدو الخفي لعلوم الإنسان ’’.

وإذا كانت العلوم الدقيقة قد نجحت في الفصل بين الذات و الموضوع و حققت موضوعية objectivité أبحاثها ، فإن العلوم الإنسانية لم تنجح في ذلك ، لأن الباحث فيها لا يملك القدرة على التجرد من ذاتيته و إيديولوجيته . فالباحث عضو في المجتمع الذي ينتمي إليه ، منخرط في صراعاته الطبقية ، مساهم في حركيته ، مشارك في بنائه و ملتزم بمبدئه و قضاياه المصيرية . و عليه فذات الباحث تتدخل في انتقاء الموضوع و اختيار المنهج . يقول جون بياجي : ‘‘ فالعالِم لا يكون أبدا عالِما معزولا ، بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي أو أيديولوجي ’’ . و يؤكد الفيلسوف و عالم الاجتماع الفرنسي لوسيان غولدمانLucien GOLDMAN (1913-1970) نفس الفكرة بقوله : ‘‘ الباحث يتصدى ، في الغالب ، للوقائع مُزَوَّداً بمفاهيم قَبْلِيَّة و مقولات مضمرة و لاواعية تَسُدُّ عليه طريق الفهم الموضوعي .’’

فهل تداخل الذات مع الموضوع يمنع العلوم الإنسانية من تحقيق الموضوعية ؟ إن غياب الموضوعية ينفي عن العلوم الإنسانية علميتها . كما أن تجرد الباحث من ذاتيته أمر متعذر . إذا فما العمل ؟ لقد سعى الباحثون إلى الموضعة objectivation أي اعتماد تقنيات منهجية للتقليص من تدخل الذاتية في دراساتهم ، لتحقيق نصيب من الموضوعية ؛ فالمَوْضَعَة هي الأمر الممكن ، إنها نسبة من الموضوعية لا الموضوعية كاملة .



2)- التفسير و الفهم في العلوم الإنسانية :



تضاف إلى مشكلة الموضعة مشكلة المنهج ، فما هو المنهج المعتمد لمعرفة الظاهرة الإنسانية : هل هو التفسير أم الفهم ؟ فما التفسير ؟ و ما الفهم ؟

التفسير هو الكشف الموضوعي عن العلاقات السببية بين الظواهر الإنسانية . فالظاهرة الإنسانية إذا هي نتيجة أسباب يسمح العلم بها توقع تكرارها في ضوء النظام الحتمي الذي تخضع له . و في هذا تعارض مع القول بالحرية . و ينطوي التفسير على ضرب من التوقع أو التنبؤ . و التنبؤ هو قدرة العلماء على توقع تكرار الظاهرة في حال توفر الأسباب ، و العلم بالأسباب إقرار بالحتمية .

يرى الأنتروبولوجي الفرنسي كلود لفي ستروس Claude Lévi-Strauss (1908-2009) أن تقدم العلوم الفيزيائية راجع إلى اعتمادها آليتيْ التفسير و التنبؤ . و ليس التنبؤ سوى ثمرة التفسير . غير أن العلوم الإنسانية لا زالت حتى اليوم متعثـرة في سيرها نحو التفسير و التنبؤ الدقيقين ، لان تفسيراتها هشةٌ تنقصها الدقة ، و تنبؤاتها فضفاضة تفتقر إلى اليقيـن ، و السبب في ذلك راجع إلى تعقد الظاهرة الإنسانية و حداثة نشأة العلوم الإنسانية و بطء و تعثر نموها . لكنه يعتبر أن هذه الوضعية مؤقتة سوف يتم تجاوزها مع تقدم البحث و تذليل الصعوبات . و إن كان التفسير و التنبؤ اليوم متعذريـن ، فإنهما ممكنين مستقبلا . يقول ستروس : ‘‘ إن العلوم الإنسانية مهيأة ، بحكم مآلها ، لأن تمارس التنبؤ و تطوره .’’

غير أن هذا الموقف الوضعي تعرض لانتقادات لأنه تجاهل خصوصية الظاهرة الإنسانية كظاهرة حرة لا تخضع لحتمية ، و ينظر إليها كشيء بدون معنى . و أهم الانتقادات هي :

- قد تتوفر الأسباب و لا تحدث الظاهرة ، فإذا قتل شخصٌ زوجته ،مثلا، لأنها خانته ، فإننا لا نستطيع أن نجزم أن كل من خانته زوجته قتلها .
- إن الظاهرة الواحدة قد تحدث نتيجة أسباب مختلفة ، فالقتل قد يحدث ليس نتيجة الخيانة فقط بل قد يحدث نتيجة عوامل أخرى غير القتل .
- إن الظاهرة الإنسانية تصدر عن كائن واع و حر لا عن نظام سببي .
- التفسير تأكيد على الحتمية و نفي للحرية .
- إنه منهج يتناول الظاهرة كشيء ، و هذا ما لا يسمح له بالنفاذ إلى عمقها و إدراك معناها .
لهذه الاعتبارات دعت الفينومينولوجيا إلى تجاوز التفسير و استبداله بالفهم ، لأن التفسير إن كان مُجديا في العلوم الطبيعية ، فإنه غير مفيد في العلوم الإنسانية ، لأن الفعل الإنساني كما يقول الفيلسوف وعالم النفس و الاجتماع الألماني فيلهلم ديلتاي Wilhelm DILTHEY (1833 -1911) ظاهـرة تُفْهَمُ و لا تُفَسَّرُ . فما الفهم ؟ الفهم رؤية نافذة لإدراك معاني الأفعال الإنسانية عن طريق التأويل . فالفعل الإنساني هو ظاهرة تعبيرية لها ظاهر و باطن . و التأويل هو صرف الفعل عن ظاهره لبلوغ باطنه أي معناه . فالفهم هو معرفة الظاهرة في ذاتها بالكشف عن معناها الباطني بالتأويل ، أما التفسير فمعرفة الظاهرة بغيرها من خلال ظاهرة أخرى تكون هي السبب في حدوثها . و لا يمكن فهم الظاهرة إلا بالمشاركة و الانخراط فيها ، و بذلك يكون الفهم ذاتي ، يبحث عن المعنى لا عن الأسباب ، يسعى لكشف الباطن لا الظاهر .

يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل جاستون جرانجي في نقده لكل من التفسير و الفهم : ‘‘ إن كل طريق من هذين تعترضه صعوبات .’’ . فالفهم تجاهل للأسباب ، و التفسير إغفال للمعنى . إن التفسير انشغل بالشروط و القيود الموضوعية و الخارجية للأفعال الإنسانية ،إنه معرفة بالشروط لا بالأفعال ؛ أما الفهم فيسعى لإدراك الدلالة الباطنية للفعل الإنساني ذاته . يقول لفي ستروس :‘‘ لم تنظر العلوم الإنسانية للفعل الإنساني ، و إنما للشروط الموضوعية للأفعال ’’.



3)- نموذجية العلوم التجريبية :

النقاش حول الفهم و التفسير هو في العمق نقاش حول نموذجية العلوم الطبيعية بالنسبة للعلوم الإنسانية . فهل استطاعة العلوم الإنسانية تحقيق علميتها بحذو النموذج الطبيعي ؟

يرى الوضعيون أن ثمة نموذجا علميا مطلقا يكفي تطبيقه لتحقيق العلمية ، لأن الظاهرة الإنسانية تشبه الظاهرة الطبيعية ، و إن كان هناك اختلاف فهو في الدرجة لا في الطبيعة . و عليه يكفي تعدل المنهج التجريبي ليتلاءم مع الظاهرة الإنسانية . و أن حضور الذاتية في العلوم الإنسانية ، كما بين ذلك العميد السابق لكلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية بباريس فيليب لابورت طولرا philippe laburthe TOLRA ، لم يعد يشكل عائقا أمامها مادام أن العلوم الفيزيائية المعاصرة تأخذ هي الأخرى بعين الاعتبار تدخل ذاتية الباحث .

غير أن الفينومينولوجيا ترى أن الاختلاف بين الظاهرتين هو في النوع لا في الدرجة ، و عليه فإن خصوصية الظاهرة الإنسانية تشترط لا تعديل المنهج التجريبي بل العمل على إبداع مناهج علمية مناسبة . و ينتقد الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو- بانتي Merleau-ponty (1908-1961) الاتجاه الوضعي في العلوم الإنسانية الذي سعى لتحقيق الموضوعية بتجاهل التجارب الذاتية المعيشة . فالعالم هو ذات قبل أن يكون باحثا ، و أنه يدخل البحث مُحَمَّلا بتمثلات مسبقة و خبرات ذاتية لا يمتلك تجاهلها في بناء نظريته العلمية . فالظاهرة التي يفكر فيها هي نفسها الظاهرة يحياها . و عليه فنظريته العلمية ليست مستقلة عن تجربته الذاتية . و بذلك فالذات شرط ضروري يستحيل استئصاله من البحث . و تجارب الذات هي أساس المعرفة العلمية و شرط إدراك دلالات الظواهر و معانيها . و بإبعاد الذات تفقد الظاهرة الإنسانية دلالتها العميقة . فموضوعية العلوم الإنسانية تبنى على التجارب المعيشة و انطلاقا منها بحيث تكون تعبيرا ثانيا عنها . غير أن الذات ليست وحيدة بل ثمة ذوات أخرى تشاركها الحياة و التفكير و تتواصل فيما بينها . ففي هذا التواصل يتم تبادل الخبرات الذاتية و المعرفة الموضوعية . فكل ذات تسعى للالتقاء مع غيرها . و في إطار هذه العلاقة البينذاتية تتحقق الموضوعية و يتشكل عالم النحن . و بذلك لم تعد الموضوعية هي إقصاء الذات ، بل تلاقي الذوات في نظراتها المختلفة و المتكاملة حول الظواهر الإنسانية .

إذا كانت الوضعية ترى أن موضوعية العلوم الإنسانية مشروطة بتعطيل الذاتية ، فإن الفينومينولوجيا ترى أن الذاتية هي شرط علمية العلوم الإنسانية ، لأن ما يجري على الظواهر الطبيعية لا يمكن أن ينطبق على الظواهر الإنسانية .و في ضوء انتقادات الفينومينولوجيا للموقف الوضعي يتضح أن ليس ثمة نموذج علمي مطلق صالح لكل العلوم ، و ملائم لكل موضوع ، إنساني كان أو طبيعي . و لقد أبان القدم العلمي أن ليس بالإمكان نقل منهج علمي ناجح في مجال إلى مجال آخر مختلف . و عليه فليس ثمة منهج كلي يطبق على أي موضوع ، بل الموضوع هو الذي يفرض المنهج الملائم لدراسته . وهذا ما يؤكده الفيلسوف البلجيكي جان لدريير jean LADRIERE (1921-2007) : ‘‘ إن حقل الظواهر الإنسانية و الاجتماعية يمكن أن يمنحنا صورة للعلمية مغايرة للعلمية في مجال الظواهر الفيزيائية ’’ . إذا فمهمة العلوم الإنسانية نقل منهج جاهز بل في العمل على إبداع مناهج تلائم موضوعها . يقول وليام ديلتاي : ‘‘ إن للعلوم الإنسانية الحق في أن تبني منهجها بنفسها انطلاقا من موضوعها ’’ .
hager el fezazi
hager el fezazi

عدد المساهمات : 102
تاريخ التسجيل : 06/12/2009

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى