العلوم الإنسانية
صفحة 1 من اصل 1
العلوم الإنسانية
اعتقد المفكرون في القرن 19 ، نتيجة انبهارهم بما حققته العلوم الطبيعية بفضل المنهج التجريبي من نجاح في فهم الظواهر الطبيعية والتحكم فيها و استغلالها ، أن نقل نفس المنهج إلى دراسة الإنسان يحقق معرفة موضوعية بالظواهر الإنسانية تُمَكِّـن من التحكم في دوافعه و الارتقاء بملكاته و إمكانياته . و بذلك كانت نشأة العلوم الإنسانية التي سوف يتحول معها الإنسان من ذات تفكر إلى موضوع معرفة علمية . و لقد ساد ، قبل ذلك ، اعتقاد أن الإنسان ذاتٌ و لا يمكن معاملته كموضوع ، لكن مع قيام العلوم الإنسانية صار الإنسانُ موضوعَ أبحاثٍ علمية . فما العلوم الإنسانية ؟ و هل توفقت في تناول الظواهر الإنسانية بطريقة موضوعية ؟ و هل هي علوم تعتمد منهج التفسير أم منهج الفهم ؟ و هل علميتها في الاحتذاء بنموذج العلوم الطبيعية أم في بناء نموذجها العلمي الخاص ؟
العلوم الإنسانية هي مجموع العلوم التي تتناول الإنسان بمنهجية موضوعية ، كل علم تخصص في دراسة بُعْدٍ من أبعاده : فعلم النفس اهتم بدراسة العمليات العقلية و الوجدانية ؛ و علم الاجتماع تناول العلاقات و المؤسسات اجتماعية المؤطرة لسلوك الإنسان . أما علم التاريخ فعالج تأثير أحداث الماضي في حياة الإنسان . إنها علوم لا علم واحد ، وأنها اتسعت اليوم لتشمل فروعا جديدة . و لقد اقترن ميلاد العلوم الإنسانية في القرن 19 بالمشروع الوضعي القاضي بالتخلص من الخطاب الفلسفي التأملي حول الإنسان و دراسته دراسة موضوعية عن طريق تطبيق النماذج التجريبية التي أكدت نجاحها في العلوم الطبيعية . وفي هذا الصدد اعتبرت الظواهر الإنسانية " أشياء " أي وقائع خارجية مستقلة عن ذات الباحث يمكن تناولها بنزاهة و حياد و موضوعية . و هذا ما يبينه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم Emile DURKHEIM(1858-1917) : ‘‘ علينا أن نعتبر الظواهر الاجتماعية في ذاتها كظواهر مستقلة عن الذوات الواعية التي تتمثلها ، علينا أن ندرسها من الخارج بوصفها أشياء خارج الذات ، و ذلك لأنها تُعْطانا من الخارج باعتبارها أشياء .’’
فدراسة الظاهرة الإنسانية ، سوء كانت اجتماعية أو نفسية أو تاريخية ، كشيء مستقل عن الذات تحقق الموضوعية للأبحاث كشرط ضروري للعلمية . و الموضوعية هي مقاربة الظاهـرة بحياد ونزاهة بعيدا عن الميول الذاتية و المواقف الإيديولوجية . غير أن الموضوعية اصطدمت بجملة من الصعوبات و طرحت عدة إشكالات . فتناول الظاهرة الإنسانية كشيء ينفي عنها ما تحمله من معاني وقيم و ما تقصده من غايات و بالتالي يفقدها خصوصيتها و يبعد العلوم عن تكون إنسانية . يقول المحلل النفسي الأمريكي من أصل ألماني إريك فرومEric FROMM (1900-1980) : ‘‘ تسمى هذه الطريقة لفهم الإنسان علما ...لكنه ليس إنسانيا ’’.
1)- موضعة الظاهرة الإنسانية :
فما الظاهرة الإنسانية ؟ وما هي صعوبات موضعتها ؟ الظاهرة الإنسانية هي كل ما يصدر عن الإنسان من سلوكات نفسية أو تصرفات اجتماعية أو أفعال تاريخية تتميز بكونها :
- واعية يتدخل فيها الفكر .
- قصدية لها أهداف وغايات و تحمل معان ، و ليست سلوكا آليا غريزيا .
- حرة تصدر عن إرادة تختار أفعالها .
- فريدة لا تتكرر ، تحدث مرة ثم تمضي ، وهذا ما يجعل التعميم متعذرا .
- تعبيرية لها ظاهر يعبر عن باطن .
- تاريخية تتغير مع تغير الزمان و المكان .
- معقدة تتداخل فيها كل الأبعاد النفسية و الاجتماعية و التاريخية ، لدرجة يتعذر معها عزل بُعْدٍ عن باقي الأبعاد لدراسته باستقلال عن غيره . يقول الفيلسوف و عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر إدغار موران Edgar MORIN : ‘‘ تقوم مأساة العلوم الاجتماعية في استحالة عزل الموضوع المبحوث عنه بصورة تجريبية .’’
ويرى عالم النفس السويسري جان بياجي Jean PIAGET(1896-1980) أن مشكلة العلوم الإنسانية ليست في تعقد ظواهرها و إنما أيضا في التداخل بين الذات و الموضوع . يقول جان بياجي : ‘‘ تخلق وضعية التداخل بين الذات و الموضوع في العلوم الإنسانية صعوبات إضافية مقارنة بالعلوم الطبيعية حيث أصبح من المعتاد الفصل بين الذات و الموضوع ’’ . فالذات ( الإنسان ) في العلوم الفيزيائية الدقيقة غير الموضوع ( الطبيعة ) . أما في العلوم الإنسانية فالذات الباحثة هي عينها الموضوعُ المدروس ؛ فالباحث ذاتٌ كما أن الموضوع هو الآخر ذاتٌ . و أن ذات الباحث تتدخل بميولاتها الشخصية و قناعاتها الأيديولوجية في ذات الموضوع فتُشَوِّهُهَا ؛ و كذلك تتدخل ذاتُ الموضوع بالتَّشْوِيش على ذات الباحث وتمنعها من رؤية الظاهرة كما هي . إن الباحث في العلوم الإنسانية لا يستطيع أن يقف حيال الظواهر الإنسانية موقف اللامبالاة ، لأنها ليست أشياء ، بل هي ظاهرة تهم الإنسان و تتصل بصميم كيانه . و لو وَعَى الإنسانُ أنه موضوع دراسة لأفضى وعيه إلى تغيير مسار البحث بصورة غير متوقعة . يقول كلود لفي ستروس : ‘‘ إن الوعي هو العدو الخفي لعلوم الإنسان ’’.
وإذا كانت العلوم الدقيقة قد نجحت في الفصل بين الذات و الموضوع و حققت موضوعية objectivité أبحاثها ، فإن العلوم الإنسانية لم تنجح في ذلك ، لأن الباحث فيها لا يملك القدرة على التجرد من ذاتيته و إيديولوجيته . فالباحث عضو في المجتمع الذي ينتمي إليه ، منخرط في صراعاته الطبقية ، مساهم في حركيته ، مشارك في بنائه و ملتزم بمبدئه و قضاياه المصيرية . و عليه فذات الباحث تتدخل في انتقاء الموضوع و اختيار المنهج . يقول جون بياجي : ‘‘ فالعالِم لا يكون أبدا عالِما معزولا ، بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي أو أيديولوجي ’’ . و يؤكد الفيلسوف و عالم الاجتماع الفرنسي لوسيان غولدمانLucien GOLDMAN (1913-1970) نفس الفكرة بقوله : ‘‘ الباحث يتصدى ، في الغالب ، للوقائع مُزَوَّداً بمفاهيم قَبْلِيَّة و مقولات مضمرة و لاواعية تَسُدُّ عليه طريق الفهم الموضوعي .’’
فهل تداخل الذات مع الموضوع يمنع العلوم الإنسانية من تحقيق الموضوعية ؟ إن غياب الموضوعية ينفي عن العلوم الإنسانية علميتها . كما أن تجرد الباحث من ذاتيته أمر متعذر . إذا فما العمل ؟ لقد سعى الباحثون إلى الموضعة objectivation أي اعتماد تقنيات منهجية للتقليص من تدخل الذاتية في دراساتهم ، لتحقيق نصيب من الموضوعية ؛ فالمَوْضَعَة هي الأمر الممكن ، إنها نسبة من الموضوعية لا الموضوعية كاملة .
2)- التفسير و الفهم في العلوم الإنسانية :
تضاف إلى مشكلة الموضعة مشكلة المنهج ، فما هو المنهج المعتمد لمعرفة الظاهرة الإنسانية : هل هو التفسير أم الفهم ؟ فما التفسير ؟ و ما الفهم ؟
التفسير هو الكشف الموضوعي عن العلاقات السببية بين الظواهر الإنسانية . فالظاهرة الإنسانية إذا هي نتيجة أسباب يسمح العلم بها توقع تكرارها في ضوء النظام الحتمي الذي تخضع له . و في هذا تعارض مع القول بالحرية . و ينطوي التفسير على ضرب من التوقع أو التنبؤ . و التنبؤ هو قدرة العلماء على توقع تكرار الظاهرة في حال توفر الأسباب ، و العلم بالأسباب إقرار بالحتمية .
يرى الأنتروبولوجي الفرنسي كلود لفي ستروس Claude Lévi-Strauss (1908-2009) أن تقدم العلوم الفيزيائية راجع إلى اعتمادها آليتيْ التفسير و التنبؤ . و ليس التنبؤ سوى ثمرة التفسير . غير أن العلوم الإنسانية لا زالت حتى اليوم متعثـرة في سيرها نحو التفسير و التنبؤ الدقيقين ، لان تفسيراتها هشةٌ تنقصها الدقة ، و تنبؤاتها فضفاضة تفتقر إلى اليقيـن ، و السبب في ذلك راجع إلى تعقد الظاهرة الإنسانية و حداثة نشأة العلوم الإنسانية و بطء و تعثر نموها . لكنه يعتبر أن هذه الوضعية مؤقتة سوف يتم تجاوزها مع تقدم البحث و تذليل الصعوبات . و إن كان التفسير و التنبؤ اليوم متعذريـن ، فإنهما ممكنين مستقبلا . يقول ستروس : ‘‘ إن العلوم الإنسانية مهيأة ، بحكم مآلها ، لأن تمارس التنبؤ و تطوره .’’
غير أن هذا الموقف الوضعي تعرض لانتقادات لأنه تجاهل خصوصية الظاهرة الإنسانية كظاهرة حرة لا تخضع لحتمية ، و ينظر إليها كشيء بدون معنى . و أهم الانتقادات هي :
- قد تتوفر الأسباب و لا تحدث الظاهرة ، فإذا قتل شخصٌ زوجته ،مثلا، لأنها خانته ، فإننا لا نستطيع أن نجزم أن كل من خانته زوجته قتلها .
- إن الظاهرة الواحدة قد تحدث نتيجة أسباب مختلفة ، فالقتل قد يحدث ليس نتيجة الخيانة فقط بل قد يحدث نتيجة عوامل أخرى غير القتل .
- إن الظاهرة الإنسانية تصدر عن كائن واع و حر لا عن نظام سببي .
- التفسير تأكيد على الحتمية و نفي للحرية .
- إنه منهج يتناول الظاهرة كشيء ، و هذا ما لا يسمح له بالنفاذ إلى عمقها و إدراك معناها .
لهذه الاعتبارات دعت الفينومينولوجيا إلى تجاوز التفسير و استبداله بالفهم ، لأن التفسير إن كان مُجديا في العلوم الطبيعية ، فإنه غير مفيد في العلوم الإنسانية ، لأن الفعل الإنساني كما يقول الفيلسوف وعالم النفس و الاجتماع الألماني فيلهلم ديلتاي Wilhelm DILTHEY (1833 -1911) ظاهـرة تُفْهَمُ و لا تُفَسَّرُ . فما الفهم ؟ الفهم رؤية نافذة لإدراك معاني الأفعال الإنسانية عن طريق التأويل . فالفعل الإنساني هو ظاهرة تعبيرية لها ظاهر و باطن . و التأويل هو صرف الفعل عن ظاهره لبلوغ باطنه أي معناه . فالفهم هو معرفة الظاهرة في ذاتها بالكشف عن معناها الباطني بالتأويل ، أما التفسير فمعرفة الظاهرة بغيرها من خلال ظاهرة أخرى تكون هي السبب في حدوثها . و لا يمكن فهم الظاهرة إلا بالمشاركة و الانخراط فيها ، و بذلك يكون الفهم ذاتي ، يبحث عن المعنى لا عن الأسباب ، يسعى لكشف الباطن لا الظاهر .
يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل جاستون جرانجي في نقده لكل من التفسير و الفهم : ‘‘ إن كل طريق من هذين تعترضه صعوبات .’’ . فالفهم تجاهل للأسباب ، و التفسير إغفال للمعنى . إن التفسير انشغل بالشروط و القيود الموضوعية و الخارجية للأفعال الإنسانية ،إنه معرفة بالشروط لا بالأفعال ؛ أما الفهم فيسعى لإدراك الدلالة الباطنية للفعل الإنساني ذاته . يقول لفي ستروس :‘‘ لم تنظر العلوم الإنسانية للفعل الإنساني ، و إنما للشروط الموضوعية للأفعال ’’.
3)- نموذجية العلوم التجريبية :
النقاش حول الفهم و التفسير هو في العمق نقاش حول نموذجية العلوم الطبيعية بالنسبة للعلوم الإنسانية . فهل استطاعة العلوم الإنسانية تحقيق علميتها بحذو النموذج الطبيعي ؟
يرى الوضعيون أن ثمة نموذجا علميا مطلقا يكفي تطبيقه لتحقيق العلمية ، لأن الظاهرة الإنسانية تشبه الظاهرة الطبيعية ، و إن كان هناك اختلاف فهو في الدرجة لا في الطبيعة . و عليه يكفي تعدل المنهج التجريبي ليتلاءم مع الظاهرة الإنسانية . و أن حضور الذاتية في العلوم الإنسانية ، كما بين ذلك العميد السابق لكلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية بباريس فيليب لابورت طولرا philippe laburthe TOLRA ، لم يعد يشكل عائقا أمامها مادام أن العلوم الفيزيائية المعاصرة تأخذ هي الأخرى بعين الاعتبار تدخل ذاتية الباحث .
غير أن الفينومينولوجيا ترى أن الاختلاف بين الظاهرتين هو في النوع لا في الدرجة ، و عليه فإن خصوصية الظاهرة الإنسانية تشترط لا تعديل المنهج التجريبي بل العمل على إبداع مناهج علمية مناسبة . و ينتقد الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو- بانتي Merleau-ponty (1908-1961) الاتجاه الوضعي في العلوم الإنسانية الذي سعى لتحقيق الموضوعية بتجاهل التجارب الذاتية المعيشة . فالعالم هو ذات قبل أن يكون باحثا ، و أنه يدخل البحث مُحَمَّلا بتمثلات مسبقة و خبرات ذاتية لا يمتلك تجاهلها في بناء نظريته العلمية . فالظاهرة التي يفكر فيها هي نفسها الظاهرة يحياها . و عليه فنظريته العلمية ليست مستقلة عن تجربته الذاتية . و بذلك فالذات شرط ضروري يستحيل استئصاله من البحث . و تجارب الذات هي أساس المعرفة العلمية و شرط إدراك دلالات الظواهر و معانيها . و بإبعاد الذات تفقد الظاهرة الإنسانية دلالتها العميقة . فموضوعية العلوم الإنسانية تبنى على التجارب المعيشة و انطلاقا منها بحيث تكون تعبيرا ثانيا عنها . غير أن الذات ليست وحيدة بل ثمة ذوات أخرى تشاركها الحياة و التفكير و تتواصل فيما بينها . ففي هذا التواصل يتم تبادل الخبرات الذاتية و المعرفة الموضوعية . فكل ذات تسعى للالتقاء مع غيرها . و في إطار هذه العلاقة البينذاتية تتحقق الموضوعية و يتشكل عالم النحن . و بذلك لم تعد الموضوعية هي إقصاء الذات ، بل تلاقي الذوات في نظراتها المختلفة و المتكاملة حول الظواهر الإنسانية .
إذا كانت الوضعية ترى أن موضوعية العلوم الإنسانية مشروطة بتعطيل الذاتية ، فإن الفينومينولوجيا ترى أن الذاتية هي شرط علمية العلوم الإنسانية ، لأن ما يجري على الظواهر الطبيعية لا يمكن أن ينطبق على الظواهر الإنسانية .و في ضوء انتقادات الفينومينولوجيا للموقف الوضعي يتضح أن ليس ثمة نموذج علمي مطلق صالح لكل العلوم ، و ملائم لكل موضوع ، إنساني كان أو طبيعي . و لقد أبان القدم العلمي أن ليس بالإمكان نقل منهج علمي ناجح في مجال إلى مجال آخر مختلف . و عليه فليس ثمة منهج كلي يطبق على أي موضوع ، بل الموضوع هو الذي يفرض المنهج الملائم لدراسته . وهذا ما يؤكده الفيلسوف البلجيكي جان لدريير jean LADRIERE (1921-2007) : ‘‘ إن حقل الظواهر الإنسانية و الاجتماعية يمكن أن يمنحنا صورة للعلمية مغايرة للعلمية في مجال الظواهر الفيزيائية ’’ . إذا فمهمة العلوم الإنسانية نقل منهج جاهز بل في العمل على إبداع مناهج تلائم موضوعها . يقول وليام ديلتاي : ‘‘ إن للعلوم الإنسانية الحق في أن تبني منهجها بنفسها انطلاقا من موضوعها ’’ .
العلوم الإنسانية هي مجموع العلوم التي تتناول الإنسان بمنهجية موضوعية ، كل علم تخصص في دراسة بُعْدٍ من أبعاده : فعلم النفس اهتم بدراسة العمليات العقلية و الوجدانية ؛ و علم الاجتماع تناول العلاقات و المؤسسات اجتماعية المؤطرة لسلوك الإنسان . أما علم التاريخ فعالج تأثير أحداث الماضي في حياة الإنسان . إنها علوم لا علم واحد ، وأنها اتسعت اليوم لتشمل فروعا جديدة . و لقد اقترن ميلاد العلوم الإنسانية في القرن 19 بالمشروع الوضعي القاضي بالتخلص من الخطاب الفلسفي التأملي حول الإنسان و دراسته دراسة موضوعية عن طريق تطبيق النماذج التجريبية التي أكدت نجاحها في العلوم الطبيعية . وفي هذا الصدد اعتبرت الظواهر الإنسانية " أشياء " أي وقائع خارجية مستقلة عن ذات الباحث يمكن تناولها بنزاهة و حياد و موضوعية . و هذا ما يبينه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم Emile DURKHEIM(1858-1917) : ‘‘ علينا أن نعتبر الظواهر الاجتماعية في ذاتها كظواهر مستقلة عن الذوات الواعية التي تتمثلها ، علينا أن ندرسها من الخارج بوصفها أشياء خارج الذات ، و ذلك لأنها تُعْطانا من الخارج باعتبارها أشياء .’’
فدراسة الظاهرة الإنسانية ، سوء كانت اجتماعية أو نفسية أو تاريخية ، كشيء مستقل عن الذات تحقق الموضوعية للأبحاث كشرط ضروري للعلمية . و الموضوعية هي مقاربة الظاهـرة بحياد ونزاهة بعيدا عن الميول الذاتية و المواقف الإيديولوجية . غير أن الموضوعية اصطدمت بجملة من الصعوبات و طرحت عدة إشكالات . فتناول الظاهرة الإنسانية كشيء ينفي عنها ما تحمله من معاني وقيم و ما تقصده من غايات و بالتالي يفقدها خصوصيتها و يبعد العلوم عن تكون إنسانية . يقول المحلل النفسي الأمريكي من أصل ألماني إريك فرومEric FROMM (1900-1980) : ‘‘ تسمى هذه الطريقة لفهم الإنسان علما ...لكنه ليس إنسانيا ’’.
1)- موضعة الظاهرة الإنسانية :
فما الظاهرة الإنسانية ؟ وما هي صعوبات موضعتها ؟ الظاهرة الإنسانية هي كل ما يصدر عن الإنسان من سلوكات نفسية أو تصرفات اجتماعية أو أفعال تاريخية تتميز بكونها :
- واعية يتدخل فيها الفكر .
- قصدية لها أهداف وغايات و تحمل معان ، و ليست سلوكا آليا غريزيا .
- حرة تصدر عن إرادة تختار أفعالها .
- فريدة لا تتكرر ، تحدث مرة ثم تمضي ، وهذا ما يجعل التعميم متعذرا .
- تعبيرية لها ظاهر يعبر عن باطن .
- تاريخية تتغير مع تغير الزمان و المكان .
- معقدة تتداخل فيها كل الأبعاد النفسية و الاجتماعية و التاريخية ، لدرجة يتعذر معها عزل بُعْدٍ عن باقي الأبعاد لدراسته باستقلال عن غيره . يقول الفيلسوف و عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر إدغار موران Edgar MORIN : ‘‘ تقوم مأساة العلوم الاجتماعية في استحالة عزل الموضوع المبحوث عنه بصورة تجريبية .’’
ويرى عالم النفس السويسري جان بياجي Jean PIAGET(1896-1980) أن مشكلة العلوم الإنسانية ليست في تعقد ظواهرها و إنما أيضا في التداخل بين الذات و الموضوع . يقول جان بياجي : ‘‘ تخلق وضعية التداخل بين الذات و الموضوع في العلوم الإنسانية صعوبات إضافية مقارنة بالعلوم الطبيعية حيث أصبح من المعتاد الفصل بين الذات و الموضوع ’’ . فالذات ( الإنسان ) في العلوم الفيزيائية الدقيقة غير الموضوع ( الطبيعة ) . أما في العلوم الإنسانية فالذات الباحثة هي عينها الموضوعُ المدروس ؛ فالباحث ذاتٌ كما أن الموضوع هو الآخر ذاتٌ . و أن ذات الباحث تتدخل بميولاتها الشخصية و قناعاتها الأيديولوجية في ذات الموضوع فتُشَوِّهُهَا ؛ و كذلك تتدخل ذاتُ الموضوع بالتَّشْوِيش على ذات الباحث وتمنعها من رؤية الظاهرة كما هي . إن الباحث في العلوم الإنسانية لا يستطيع أن يقف حيال الظواهر الإنسانية موقف اللامبالاة ، لأنها ليست أشياء ، بل هي ظاهرة تهم الإنسان و تتصل بصميم كيانه . و لو وَعَى الإنسانُ أنه موضوع دراسة لأفضى وعيه إلى تغيير مسار البحث بصورة غير متوقعة . يقول كلود لفي ستروس : ‘‘ إن الوعي هو العدو الخفي لعلوم الإنسان ’’.
وإذا كانت العلوم الدقيقة قد نجحت في الفصل بين الذات و الموضوع و حققت موضوعية objectivité أبحاثها ، فإن العلوم الإنسانية لم تنجح في ذلك ، لأن الباحث فيها لا يملك القدرة على التجرد من ذاتيته و إيديولوجيته . فالباحث عضو في المجتمع الذي ينتمي إليه ، منخرط في صراعاته الطبقية ، مساهم في حركيته ، مشارك في بنائه و ملتزم بمبدئه و قضاياه المصيرية . و عليه فذات الباحث تتدخل في انتقاء الموضوع و اختيار المنهج . يقول جون بياجي : ‘‘ فالعالِم لا يكون أبدا عالِما معزولا ، بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي أو أيديولوجي ’’ . و يؤكد الفيلسوف و عالم الاجتماع الفرنسي لوسيان غولدمانLucien GOLDMAN (1913-1970) نفس الفكرة بقوله : ‘‘ الباحث يتصدى ، في الغالب ، للوقائع مُزَوَّداً بمفاهيم قَبْلِيَّة و مقولات مضمرة و لاواعية تَسُدُّ عليه طريق الفهم الموضوعي .’’
فهل تداخل الذات مع الموضوع يمنع العلوم الإنسانية من تحقيق الموضوعية ؟ إن غياب الموضوعية ينفي عن العلوم الإنسانية علميتها . كما أن تجرد الباحث من ذاتيته أمر متعذر . إذا فما العمل ؟ لقد سعى الباحثون إلى الموضعة objectivation أي اعتماد تقنيات منهجية للتقليص من تدخل الذاتية في دراساتهم ، لتحقيق نصيب من الموضوعية ؛ فالمَوْضَعَة هي الأمر الممكن ، إنها نسبة من الموضوعية لا الموضوعية كاملة .
2)- التفسير و الفهم في العلوم الإنسانية :
تضاف إلى مشكلة الموضعة مشكلة المنهج ، فما هو المنهج المعتمد لمعرفة الظاهرة الإنسانية : هل هو التفسير أم الفهم ؟ فما التفسير ؟ و ما الفهم ؟
التفسير هو الكشف الموضوعي عن العلاقات السببية بين الظواهر الإنسانية . فالظاهرة الإنسانية إذا هي نتيجة أسباب يسمح العلم بها توقع تكرارها في ضوء النظام الحتمي الذي تخضع له . و في هذا تعارض مع القول بالحرية . و ينطوي التفسير على ضرب من التوقع أو التنبؤ . و التنبؤ هو قدرة العلماء على توقع تكرار الظاهرة في حال توفر الأسباب ، و العلم بالأسباب إقرار بالحتمية .
يرى الأنتروبولوجي الفرنسي كلود لفي ستروس Claude Lévi-Strauss (1908-2009) أن تقدم العلوم الفيزيائية راجع إلى اعتمادها آليتيْ التفسير و التنبؤ . و ليس التنبؤ سوى ثمرة التفسير . غير أن العلوم الإنسانية لا زالت حتى اليوم متعثـرة في سيرها نحو التفسير و التنبؤ الدقيقين ، لان تفسيراتها هشةٌ تنقصها الدقة ، و تنبؤاتها فضفاضة تفتقر إلى اليقيـن ، و السبب في ذلك راجع إلى تعقد الظاهرة الإنسانية و حداثة نشأة العلوم الإنسانية و بطء و تعثر نموها . لكنه يعتبر أن هذه الوضعية مؤقتة سوف يتم تجاوزها مع تقدم البحث و تذليل الصعوبات . و إن كان التفسير و التنبؤ اليوم متعذريـن ، فإنهما ممكنين مستقبلا . يقول ستروس : ‘‘ إن العلوم الإنسانية مهيأة ، بحكم مآلها ، لأن تمارس التنبؤ و تطوره .’’
غير أن هذا الموقف الوضعي تعرض لانتقادات لأنه تجاهل خصوصية الظاهرة الإنسانية كظاهرة حرة لا تخضع لحتمية ، و ينظر إليها كشيء بدون معنى . و أهم الانتقادات هي :
- قد تتوفر الأسباب و لا تحدث الظاهرة ، فإذا قتل شخصٌ زوجته ،مثلا، لأنها خانته ، فإننا لا نستطيع أن نجزم أن كل من خانته زوجته قتلها .
- إن الظاهرة الواحدة قد تحدث نتيجة أسباب مختلفة ، فالقتل قد يحدث ليس نتيجة الخيانة فقط بل قد يحدث نتيجة عوامل أخرى غير القتل .
- إن الظاهرة الإنسانية تصدر عن كائن واع و حر لا عن نظام سببي .
- التفسير تأكيد على الحتمية و نفي للحرية .
- إنه منهج يتناول الظاهرة كشيء ، و هذا ما لا يسمح له بالنفاذ إلى عمقها و إدراك معناها .
لهذه الاعتبارات دعت الفينومينولوجيا إلى تجاوز التفسير و استبداله بالفهم ، لأن التفسير إن كان مُجديا في العلوم الطبيعية ، فإنه غير مفيد في العلوم الإنسانية ، لأن الفعل الإنساني كما يقول الفيلسوف وعالم النفس و الاجتماع الألماني فيلهلم ديلتاي Wilhelm DILTHEY (1833 -1911) ظاهـرة تُفْهَمُ و لا تُفَسَّرُ . فما الفهم ؟ الفهم رؤية نافذة لإدراك معاني الأفعال الإنسانية عن طريق التأويل . فالفعل الإنساني هو ظاهرة تعبيرية لها ظاهر و باطن . و التأويل هو صرف الفعل عن ظاهره لبلوغ باطنه أي معناه . فالفهم هو معرفة الظاهرة في ذاتها بالكشف عن معناها الباطني بالتأويل ، أما التفسير فمعرفة الظاهرة بغيرها من خلال ظاهرة أخرى تكون هي السبب في حدوثها . و لا يمكن فهم الظاهرة إلا بالمشاركة و الانخراط فيها ، و بذلك يكون الفهم ذاتي ، يبحث عن المعنى لا عن الأسباب ، يسعى لكشف الباطن لا الظاهر .
يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل جاستون جرانجي في نقده لكل من التفسير و الفهم : ‘‘ إن كل طريق من هذين تعترضه صعوبات .’’ . فالفهم تجاهل للأسباب ، و التفسير إغفال للمعنى . إن التفسير انشغل بالشروط و القيود الموضوعية و الخارجية للأفعال الإنسانية ،إنه معرفة بالشروط لا بالأفعال ؛ أما الفهم فيسعى لإدراك الدلالة الباطنية للفعل الإنساني ذاته . يقول لفي ستروس :‘‘ لم تنظر العلوم الإنسانية للفعل الإنساني ، و إنما للشروط الموضوعية للأفعال ’’.
3)- نموذجية العلوم التجريبية :
النقاش حول الفهم و التفسير هو في العمق نقاش حول نموذجية العلوم الطبيعية بالنسبة للعلوم الإنسانية . فهل استطاعة العلوم الإنسانية تحقيق علميتها بحذو النموذج الطبيعي ؟
يرى الوضعيون أن ثمة نموذجا علميا مطلقا يكفي تطبيقه لتحقيق العلمية ، لأن الظاهرة الإنسانية تشبه الظاهرة الطبيعية ، و إن كان هناك اختلاف فهو في الدرجة لا في الطبيعة . و عليه يكفي تعدل المنهج التجريبي ليتلاءم مع الظاهرة الإنسانية . و أن حضور الذاتية في العلوم الإنسانية ، كما بين ذلك العميد السابق لكلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية بباريس فيليب لابورت طولرا philippe laburthe TOLRA ، لم يعد يشكل عائقا أمامها مادام أن العلوم الفيزيائية المعاصرة تأخذ هي الأخرى بعين الاعتبار تدخل ذاتية الباحث .
غير أن الفينومينولوجيا ترى أن الاختلاف بين الظاهرتين هو في النوع لا في الدرجة ، و عليه فإن خصوصية الظاهرة الإنسانية تشترط لا تعديل المنهج التجريبي بل العمل على إبداع مناهج علمية مناسبة . و ينتقد الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو- بانتي Merleau-ponty (1908-1961) الاتجاه الوضعي في العلوم الإنسانية الذي سعى لتحقيق الموضوعية بتجاهل التجارب الذاتية المعيشة . فالعالم هو ذات قبل أن يكون باحثا ، و أنه يدخل البحث مُحَمَّلا بتمثلات مسبقة و خبرات ذاتية لا يمتلك تجاهلها في بناء نظريته العلمية . فالظاهرة التي يفكر فيها هي نفسها الظاهرة يحياها . و عليه فنظريته العلمية ليست مستقلة عن تجربته الذاتية . و بذلك فالذات شرط ضروري يستحيل استئصاله من البحث . و تجارب الذات هي أساس المعرفة العلمية و شرط إدراك دلالات الظواهر و معانيها . و بإبعاد الذات تفقد الظاهرة الإنسانية دلالتها العميقة . فموضوعية العلوم الإنسانية تبنى على التجارب المعيشة و انطلاقا منها بحيث تكون تعبيرا ثانيا عنها . غير أن الذات ليست وحيدة بل ثمة ذوات أخرى تشاركها الحياة و التفكير و تتواصل فيما بينها . ففي هذا التواصل يتم تبادل الخبرات الذاتية و المعرفة الموضوعية . فكل ذات تسعى للالتقاء مع غيرها . و في إطار هذه العلاقة البينذاتية تتحقق الموضوعية و يتشكل عالم النحن . و بذلك لم تعد الموضوعية هي إقصاء الذات ، بل تلاقي الذوات في نظراتها المختلفة و المتكاملة حول الظواهر الإنسانية .
إذا كانت الوضعية ترى أن موضوعية العلوم الإنسانية مشروطة بتعطيل الذاتية ، فإن الفينومينولوجيا ترى أن الذاتية هي شرط علمية العلوم الإنسانية ، لأن ما يجري على الظواهر الطبيعية لا يمكن أن ينطبق على الظواهر الإنسانية .و في ضوء انتقادات الفينومينولوجيا للموقف الوضعي يتضح أن ليس ثمة نموذج علمي مطلق صالح لكل العلوم ، و ملائم لكل موضوع ، إنساني كان أو طبيعي . و لقد أبان القدم العلمي أن ليس بالإمكان نقل منهج علمي ناجح في مجال إلى مجال آخر مختلف . و عليه فليس ثمة منهج كلي يطبق على أي موضوع ، بل الموضوع هو الذي يفرض المنهج الملائم لدراسته . وهذا ما يؤكده الفيلسوف البلجيكي جان لدريير jean LADRIERE (1921-2007) : ‘‘ إن حقل الظواهر الإنسانية و الاجتماعية يمكن أن يمنحنا صورة للعلمية مغايرة للعلمية في مجال الظواهر الفيزيائية ’’ . إذا فمهمة العلوم الإنسانية نقل منهج جاهز بل في العمل على إبداع مناهج تلائم موضوعها . يقول وليام ديلتاي : ‘‘ إن للعلوم الإنسانية الحق في أن تبني منهجها بنفسها انطلاقا من موضوعها ’’ .
hager el fezazi- عدد المساهمات : 102
تاريخ التسجيل : 06/12/2009
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى